تطبيع نفسي…
الغامض، بالسليقة الإنسانية، شيء مكروه، فالعقل بطبيعته لا يتوقف عند الموقف السلبي من الحالة الغامضة، بل هو في كثير من الأحيان ينطلق في البناء على الحقائق المتواترة عن الشخصية المستهدفة، أو الحالة المستهدفة، فيبالغ في إدانتها، وفي تكوين تخيّل قد يكون مبالغ فيه لخلق الشخصية أو الحالة في مبعد عن الواقع، ولكن العقل في كلّ الأحوال، لا يجتهد في خلق هذا التصوّر من الفراغ، بل هو يبني على شيءٍ واقعي، ولكنه يجنح بطبيعته العضوية إلى إضفاء شيء من المبالغة للتبرير للكراهية والرفض للمستهدف بطريقة لاإرادية،
لذلك فإنّ الغموض يستدرج الكراهية واللاقبول والموقف السلبي إزاء الشخص أو الظاهرة، وهذا بالضبط ما تقوم به قناة «الجزيرة» وأخواتها في عالمنا العربي في تعاملها مع الحالة «الاسرائيلية»، والشخصية اليهودية، من خلال الاستضافة المتكرّرة والإلحاح الإعلامي في نقل الكينونة اليهودية الصهيونية من منطقة الغموض والرفض والموقف السلبي، إلى حالة متعوّد عليها، طبيعية، مقبولة، لولا قليل من الاختلاف هنا وهناك…
هذه هي الفلسفة النفسية التي كانت وراء إنشاء الكثير من المنصات الإعلامية في العالم العربي، وعلى رأسها «الجزيرة»، والتي قام بافتتاحها شمعون بيريز، رئيس وزراء الكيان آنذاك، فـ «الجزيرة» واخواتها غدت مذّاك من منصات الإعلام الصهيوأعرابي تقوم بأنسنة الشخصية الصهيونية من خلال استضافتها على شاشاتها، ليطلّ على المتلقّي العربي، فيتكلم بطبيعية، ويلقي نكتةً هنا، أو طرفةً هناك، ويتحدّث بنعومة وبسلاسة، فيقوم العقل العربي بإلغاء الذاكرة السابقة المتراكمة على مرّ الأزمان، والتي بُنيت على حقيقة أنّ هذا الانسان قام باغتصاب الأرض، وارتكاب المجازر، وتدنيس المقدسات، وممارسة العنصرية ضدّنا، والمطالبة بإلغاء وجودنا وإقصائنا…
هذا هو الدور الوظيفي لمثل هذه القنوات، والهدف الحقيقي من إنشائها، بغضّ النظر عن التصنّع بالانحياز للقضية الفلسطينية، والدفاع عن المظلومية الفلسطينية، لأننا نجد أنفسنا في نهاية المطاف، وقد قمنا بعملية تطبيع نفسي مع هذا الوحش .