الثلاثي التركي العربي الإيراني
ناصر قنديل
– تناوب العرب والفرس والأتراك على لعب أدوار إمبراطورية في تاريخ المنطقة والعالم، ومنذ ما قبل الميلاد كانت للفرس إمبراطورية تصل الى بلاد الشام وتمتدّ في عمق آسيا الوسطى إلى حدود روسيا والصين، بينما كانت مصر الفرعونية تبسط نفوذها في أطراف أفريقيا الشرقية شمالاً وجنوباً ويمتدّ نفوذها إلى بلاد الشام خصوصاً في فلسطين، وشكلت أحد صناع الحضارة الإنسانية بما يضاهي مكانة الحضارة الرومانية. ومع ظهور الإسلام تحوّل العرب سواء من الجزيرة العربية وبلاد الشام إلى لاعب إمبراطوري لعدة قرون، لم يلبث الأتراك أن ورثوا مكانتهم عبر الإمبراطورية العثمانية تحت عنوان الخلافة الإسلامية.
– منذ الحرب العالمية الأولى ودخول الإمبراطورية العثمانية مرحلة الشيخوخة، دخل العرب والأتراك والفرس في تنافس شديد على كسب رضا الغرب ورعايته، على قاعدة نزاع عربي تركي وعربي فارسي وفارسي تركي، فكان نظام الشاه وكيلاً للغرب في الخليج بلا منازع، وكانت الثورة العربية الكبرى برعاية بريطانية، وكانت تركيا أتاتورك نموذج المشروع الغربيّ للبلاد الإسلامية. ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران، بذلت إيران جهوداً مضنية ولا تزال لإقناع الأتراك والعرب بأن التعاون الثلاثي العربي التركي الإيراني يُغني كل الأطراف عن الحاجة للغرب ممثلاً بالقوة الأميركية المهيمنة، وأن على أطراف الثلاثي نبذ وهمين والتمسك بحق وحقيقة، كي يتحقق التلاقي. والمطلوب الاقتناع بأن لا أساس للصراعات المذهبية، وأن هذا الصراع مجرد وهم، كما المطلوب أن الاقتناع بأن الغرب وعلى رأسه الأميركي يتلاعب بالجميع ولا يهمه أن يخرج أحدهم قوياً. أما ما يجمع أطراف الثلاثي فهو أنهم اللاعبون الكبار في منطقة غرب آسيا ووحدتهم تصنع نظاماً إقليمياً ضامناً للاستقرار وليس عدواً للغرب بالضرورة بل هو ندّ له على الأقل، والثانية أن فلسطين هي القضية المشتركة لأطراف الثلاثي، لكن الصراع الذي افتتحه الأميركي بحربه على العراق والإيحاء بأن النتيجة كانت بمثابة إخلال بالتوازن المذهبي وانتصار شيعي على السنة، وما تلاه من نجاح في ضمّ الأتراك ثم العرب خصوصاً في مصر والخليج إلى خطة حربه على سورية، وتقديمها كحرب سنّية لاستعادة الحقوق من الهلال الشيعيّ، تسبّب بإحباط كل دعوة للوحدة والتلاقي.
– بعد خمس عشرة سنة تنجح تركيا بحسم الصراع على سورية، لكن تكتشف تركيا أنّها تشعل مواجهة مع العرب، خصوصاً الخليج ومصر، ليس فقط بسبب النموذج العقائديّ الذي حملته معها إلى سورية بمباركة أميركية وأوروبية ورضا إسرائيلي، بل أيضاً لأن هذا النفوذ التركي في الملعب العربي يثير قلق التوسّع نحو عثمانية جديدة يبشر بها عدد من القادة الأتراك. والواضح أن الاندفاعة الخليجية نحو لبنان، والتسليم بمعادلات تنفتح على دور لحزب الله في التوازنات اللبنانية، هو مجرد تأسيس للانفتاح على التعاون مع إيران في المنافسة مع تركيا على المسرح السوريّ انطلاقاً من الخاصرة اللبنانية، بينما لم يحقق إخراج إيران من سورية بالنسبة لتركيا ما كان مأمولاً من تسديد فواتير أميركية وإسرائيلية بالتعامل مع حصرية الإدارة التركية للملف السوري، فلا تجاوب مع دعوات رفع العقوبات، ولا توقف عن العبث الإسرائيلي المُحرج في الجغرافيا السورية، ولا استعداد لحل المسألة الكردية التي تمثل تحدياً يومياً للأتراك.
– مرة أخرى يتلاعب الغرب بنزاعات الثلاثي التركي العربي الإيراني، وهو لن يصدق مع أحد منهم وعوده وتعهداته، ويريد توظيف نزاعاتهم لتبرير عدم وفائه بالتعهدات. ومرة أخرى المطلوب هو الاقتناع بأن النزاع المذهبي وهم، وأن الاطمئنان للغرب سراب، وأن التلاقي مصلحة عليا، وأن نقطة التلاقي الأولى يجب أن تكون فلسطين، وعلى قاعدة طرح واقعي مثل قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 توظّف في تحقيقها إمكانات تركيا والخليج ومصر وإيران وقوى المقاومة، دون أن تتطابق الرؤى والمقاربات، بل تتقاطع وتتعاون، ومنها يمكن النظر إلى التعاون في إرساء صيغة حكم مستقرة لسورية تتسع لكل مكوّنات الشعب السوريّ، وتوفر الأمن الإقليميّ للسوريين، وتفتح الطريق لانتخابات حرة في سورية خلال شهور قليلة، والتوقيت مناسب مع انكفاء أميركي إلى ما وراء الأطلسي، وتراجع إسرائيلي ناتج عن إصابة مشروعه الاستراتيجي القائم على الاحتلال والتهجير والقضاء على قوى المقاومة بخسائر كبرى تنقله إلى مرحلة التهديد الوجوديّ، رغم نجاحه بتوجيه ضربات مؤلمة لقوى المقاومة، فهل يتفوّق نداء العقل والمصلحة على الحسابات الصغيرة والعناد والمعارك الصفريّة، كل شيء أو لا شيء؟
– لنتذكر أن تفاهماً تركياً إيرانياً سعودياً مصرياً يتكفل بإنهاء أزمات لبنان وسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان، ويؤمن سوقاً بمئات ملايين المستهلكين وقدرة مالية ونفطية وصناعية تضاهي قوة الاتحاد الأوروبي، ونتذكر أن الراحل أنيس النقاش عندما أعدّ مشروعه للكونفدرالية المشرقية انطلق من هذه الحسابات، أولويّة حروب القضايا على صراع الهويّات.