أطروحة ترامب للتهجير وسبل المواجهة*
مقدمة
شكل تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن تهجير أبناء الشعب الفلسطيني من قطاع غزة وقع الصدمة على أطراف الصراع خاصة أنها جاءت من قطب العقارات الذي ينظر إلى العالم من باب الصفقات، وكان لافتاً استهزاء وسخرية الفلسطينيين من هذه الأفكار التي طرحت في بدايات الحرب على قطاع غزة وعلى لسان أكثر من وزير ومسؤول «إسرائيلي».
وقد أفشل الشعب الفلسطيني بمقاومته مشروع التهجير رغم حرب التدمير والإبادة التي حوّلت القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، ولكنهم وبمشهد ملحمي عادوا إلى منطقة شمال قطاع غزة سالكين الطرق الوعرة للوصول إلى منازلهم المدمّرة في رسالة انتصار واضحة على الاحتلال ومشروع التهجير.
مشاريع تهجير وتوطين الفلسطينيين في الأقطار العربية وكانت قد عرفت حضوراً تاريخياً متكرّراً، لا سيما عام 1953، بما عُرف حينها بـ«خطة سيناء»، وكذلك «مشروع الجزيرة» شمال سورية، لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية والعراق، و«مشروع جونسون» لتوطين الفلسطينيين الموجودين في الضفتين الشرقية والغربية حول نهر الأردن.
وتقف «واشنطن وحليفتها (إسرائيل) عادة وراء تلك المشاريع التي لاقت رفضاً عربياً رسمياً، وعلى المستوى الشعبي والسياسي الفلسطيني».
سياسة التهجير
انبثقت سياسة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه من صلب الحركة الصهيونية. ورافقت تطوّر المشروع الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم. ولا نكاد نجد قائداً صهيونياً لم يناد بطرد الفلسطينيين من وطنهم. وربط تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين بطرد الفلسطينيين منها.
وقد تشكل في ثلاثينيات القرن العشرين إجماع صهيوني. شمل الأحزاب والمؤسسات الصهيونية المختلفة، يدعو إلى تهجير الفلسطينيين. وأقامت الوكالة اليهودية ثلاث لجان ترحيل (ترانسفير) لوضع الخطط العملية لتهجير الفلسطينيين من فلسطين وتوطينهم خارجها، خاصة سورية ولبنان والعراق الأردن، الأولى في عام 1937، والثانية في عام 1942، والثالثة في عام 1948. إلى جانب ذلك، وضعت منظمة الهاغاناه الصهيونية خططاً عسكرية في أربعينيات القرن العشرين طوّرتها إلى الخطة «د» (دالت) في آذار/ مارس 1948، وباشرت تنفيذها في بداية نيسان/ أبريل 1948. وفي حرب 1948، طردت المنظمات العسكرية الصهيونية والجيش الإسرائيلي نحو 800 ألف فلسطيني من مدنهم وبلداتهم وقراهم.
شكلت قضية اللاجئين الفلسطينيين حلقة مركزية في الصراع مع الإحتلال «الإسرائيلي». ففي حين طالب الفلسطينيون ومعظم الدول في العالم بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، رفضت «إسرائيل» ذلك بشدة. كما رفضت تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الذي صدر في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948، والذي دعا إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وسعت منذ تهجيرهم في حرب 1948 إلى توطينهم في الدول العربية، لا سيما سورية والعراق والأردن ولبنان. وفي دول أخرى في العالم. وقد أيّدت الولايات المتحدة الأميركية توطين أغلبية اللاجئين الفلسطينيين وطرحت قبل حرب حزيران/ يونيو 1967 العديد من المشاريع في هذا الخصوص.
وبعد أن احتلت «إسرائيل» قطاع غزة في حرب 1967 ساد إجماع في الحكومة الإسرائيلية على أنّ «إسرائيل» لن تنسحب من القطاع في أيّ حلّ.
وظلّ تهجير الفلسطينيين في العقود الماضية يحتلّ أولوية عليا في ذهنية القادة الإسرائيليين، فوضعوا التصوّرات والخطط لتهجيرهم بطرائق شتى. فمثلاً صرّح رابين في بداية عام 1973 بأنّ مشكلة اللاجئين في قطاع غزة يجب ألا تُحلّ فيه، وإنما في الأردن، وأنّ على (إسرائيل) توفير الظروف الملائمة، وخاصة الاقتصادية التي تحقق ذلك».
وفي عام 2010، طرح الجنرال غيورا آيلاند. الذي ترأس في الفترة 2004 – 2006 مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. مشروعاً لتوطين أكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزة في سيناء في إطار اتفاق تبادل أراض بين مصر و(إسرائيل) وفلسطين كالتالي»
*أولاً: تعطي مصر قطاع غزة أرضاً من سيناء مساحتها 720 كيلومتراً مربعاً في المنطقة المحاذية للقطاع، تمتدّ 24 كيلومتراً على شاط البحر الأبيض المتوسط، و34 كيلومتراً على الحدود المصرية مع قطاع غزة و(إسرائيل).
*ثانياً: يتنازل الفلسطينيون، في مقابل حصولهم على 720 كيلومترا مربعاً من سيناء. عن 720 كيلومتراً مربعاً من مساحة الضفة الغربية المحتلة لفائدة (إسرائيل)، في المناطق المقام عليها الكتل الاستيطانية اليهودية التي تعادل 12 في المئة من مساحتها.
*ثالثاً: في مقابل المساحة التي تعطيها مصر لقطاع غزة، تحصل مصر من (إسرائيل) على مساحة في جنوب غرب صحراء النقب قد تصل إلى 720 كيلومترا مربعاً، ولكن قد تكون أصغر من ذلك. في حال قبلت مصر الإغراءات والامتيازات التي تحصل عليها من (إسرائيل).
وبعد معركة طوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة، ظهرت الدعوات «الإسرائيلية» لتهجيرهم إلى سيناء ودول أخرى في المنطقة والعالم. وقد ازدادت هذه الدعوات يوماً بعد آخر من قادة «إسرائيليين» داخل أحزاب الاثتلاف الحكومي، وفي صفوف المعارضة السياسية، وفي وسائل الإعلام، وقادة الرأي العام، وفي العديد من مراكز الأبحاث «الإسرائيلية». وفي هذا السياق: دعا الجيش الإسرائيلي في المرحلة الأولى من الحرب. جميع الفلسطينيين في محافظتي غزة والشمال إلى مغادرة بيوتهم والتوجه إلى جنوب وادي غزة وجنوب القطاع. وفي المرحلة الثانية من الحرب: دعا جميع سكان محافظتي الوسطى وخانيونس إلى التوجه إلى رفح المحاذية للحدود مع سيناء.
وقد برز في الدعوة إلى التهجير كلام بنيامين نتنياهو، الذي دعا علناء ونشط سراً أيضاً منذ بداية الحرب، إلى تهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء». وطرح في بداية الحرب: إضافة إلى مسؤولين إسرائيليين آخرين على العديد من قادة الدول الغربية تأييد سعي (إسرائيل) لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
واعتبر «الإسرائيليون» أنّ تحقيق هدف الحرب المعلن وهو القضاء على المقاومة وحكم حماس وعلى قوتها العسكرية في قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيين أو معظمهم من قطاع غزة إلى سيناء. وجاءت حرب الإبادة وتدمير القطاع وتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش فيها، لتخدم على نحو مباشر استراتيجية الاحتلال في التهجير. ولتحقيق ذلك تعمل علناً وسراً للاتفاق مع العديد من الدول في العالم لاستقبال أكبر عدد من الفلسطينيين عن طريق رفح أو بواسطة ميناء يجري إنشاؤه بدعم وإشراف أميركي.
ومن هنا جاءت أطروحة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في تصريحات لصحافيين، يدعو فيها إلى نقل فلسطينيّي قطاع غزة إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، متذرّعاً بـ«عدم وجود أماكن صالحة للسكن في قطاع غزة»، جراء إبادة إسرائيلية استمرت أكثر من 15 شهراً بدعم أميركي».
وجاءت تصريحات ترامب بعد إنجاز التوقيع على المرحلة الأولى من «اتفاق تبادل الأسرى مع حماس، والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقف إطلاق نار دائم، كاشفاً عن مساعيه لإقناع مصر والأردن ودول عربية أخرى باستقبال سكان قطاع غزّة، وذلك بعد تقارير إعلامية تحدثت عن بحث إدارة ترامب في إمكانية نقل وتهجير سكان قطاع غزّة إلى إندونيسيا.
وأطروحة ترامب، التي تتذرّع بالوضع الإنساني في غزّة، واضحة المفهوم لتهجير سكان قطاع غزّة بما يتفق مع الخطّة «الإسرائيلية» التأسيسية لحرب الإبادة الجماعية، كما كانت بداية الحرب، وبما قد يعزّز الآراء التي تتجاوز تفسير الحرب الإسرائيلية على غزّة بكونها حرباً إسرائيلية/ أميركية، إلى القول بأنّ أهدافها محلّ اتفاق بين الإسرائيليين والأميركيين، بما في ذلك تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، وبنحو عابر للإدارات، أيّ هو موقف المؤسسة الأميركية، بأجهزتها الثابتة والراسخة.
لا تكشف تصريحات ترامب الموقف الأميركي الحقيقي إزاء الحرب «الإسرائيلية» وأهدافها النهائية فحسب، ولكنها أيضاً تكشف فشل الحرب الإسرائيلية في إنجاز هذا الهدف في الوقت المحدّد لها أميركيّاً.
وإذا كان صمود المقاومة الفلسطينية حال دون إنفاذ هدف التهجير بالدفع العسكري المباشر، فإنّ الاستثمار في الدمار والضغط السياسي والاقتصادي هو الخطة التالية لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة، وبالضغط المباشر على عدد من الدول العربية لاستقبالهم، ممّا يحتّم على هذه الدول المواجهة المباشرة لهذه الخطّة بالدعم الصريح لصمود الفلسطينيين في قطاع غزّة، وبما يتطلب تجاوز الإرادة الإسرائيلية، ابتداء من الدخول المباشر في عمليات الإغاثة وتشييد المساكن المؤقتة، وفي الوقت نفسه البدء بإعادة الإعمار، ودعم المقاومة الفلسطينية بوصفها الشرط الأساس لكبح التغوّل الإسرائيلي، لا سيما أنّ النوايا الإسرائيلية لتعويض الفقر في العمق الاستراتيجي متجسدة عمليّاً وتتجاوز الحيّز الجغرافي الفلسطيني، وما لا يمكن تحصيله جغرافيّاً تعمل «إسرائيل» على تحصيله بتكريس هيمنتها على دول المنطقة.
التهجير وسبل المواجهة
بعد الرفض والتنديد يجب العمل على إفشال أطروحة ترامب كما أفشل الشعب الفلسطيني على مدار عقود كلّ خطط التهجير والوطن البديل، مع التأكيد أنّ هذه الأطروحة تشجع على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بإجبار شعبنا على الرحيل عن أرضه»، ومطلوب أيضاً من مصر والأردن بعد رفضهم أطروحة ترامب دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتمسّكه بحقوقه المشروعة، وهذا المطلوب أيضاً من جميع الدول العربية والإسلامية.
مع التأكيد بأنّ تهجير أهل قطاع غزة لم يحصل ولن يحصل. ثم إنّ ما شهدناه من عودة مهيبة لما يقرب من مليون فلسطيني راجلين على أقدامهم إلى شمال قطاع غزة، يصفع أول محاولة من ترامب للتقرب من ملف الصراع بالمنطقة، ويكشف عن أنّ نظرته إلى هذه القضية ساذجة وسطحية ولا تنم عن معرفة عميقة بجذورها وديناميتها ومآلاتها.
ومن هذا المنطلق فإنّ تصريحات ترامب لم تكن زلة لسان عندما استخدم تعبير تطهير في وصفه لما يخطط له في قطاع غزة.
كما أنّ هناك تقديرات قانونية وحقوقية تقول إنّ بالإمكان محاكمة دونالد ترامب لو أنّ ميزان العدالة الدولية ما زال قائماً، وذلك بتهمة التحريض على ارتكاب جرائم حرب بهذا المعنى وبهذا الإتساع.
خاتمة
إنّ سبل المواجهة لما يُسمّى خطة التهجير من قطاع غزة وتفريغه من سكانه مرتبطة مباشرة بمواجهة المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً لشطب قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ولذلك يجب تحشيد كافة القوى على المستوى الرسمي والشعبي لمواجهة خطة التهجير والتصدّي لها واعتبار عودة أهالي غزة إلى شمالها أول ردّ حقيقي وعملي يجب البناء عليه خاصة بعدما أثبت الشعب الفلسطيني قدرته على إفشال مشروع التهجير رغم كلّ الوسائل الإجرامية والتدمير والتخريب، ولذلك فإنّ المطلوب أولاً هو وحدة موقف على المستوى الفلسطيني برؤية وطنية جامعة تؤكد بأنّ ما فشل الإحتلال في تحقيقه بالحرب لن يتم تحقيقه بالسياسة لتمرير مخططات الهدف منها استهداف فلسطين الأرض والإنسان.
*دراسة صادرة عن قسم الدراسات المركزي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة»