نقاط على الحروف

عظمة السيد نصرالله

 

 ناصر قنديل

 

– لم يعرف العالم العربي والعالم الإسلامي شخصيات تركت تأثيراً جارفاً في نفوس الملايين مثل السيد حسن نصرالله إلا مع جمال عبد الناصر والإمام الخميني، حيث كان لحضور هذه الشخصيات سحر التأثير في قلوب الملايين وعقولها. وكان للخطابة عندها قدرة استثنائيّة على جذب الملايين وصناعة الحدث بخطاب، ومع رحيل مثل هذه الشخصيات فراغ كبير وشعور بالحزن والإحباط.

– ما من شك في أنه بالرغم من رحيل جمال عبد الناصر وبالرغم من غياب تيار ناصريّ مؤثر يصنع السياسة من بعده ويواصل مسيرته في صناعة القرار العربيّ، إلا أن فكرة الوحدة بين البلاد العربية وفكرة العروبة كهوية جامعة، والوحدة بين بلدين عربيين أو التكامل بينهما، بقيت جواباً دائماً على حال التشتت والضعف التي يعانيها العرب ويشعرون بسببها بضآلة تأثيرهم في العالم، الذي بات مجموعة من التكتلات الكبرى، ولا يزال عبد الناصر ملهماً للكثيرين في التفكير والسعي لإحياء مشاريع وحدويّة بصيغ محدّثة كردّ على السؤال حول كيف يمكن للعرب أن يكون لهم تأثير في العالم الجديد؟

– لا تزال شخصية الإمام الخميني فاعلة ومؤثرة رغم عقود على رحيله، لأن الدولة التي بناها عبر ثورته نمت بغيابه مع خليفة ثابر على خطى نهجه، ومؤسسات فكرية وسياسية وعسكرية حملت هذا النهج، وبنت دولة مستقلة قادرة صنعت من إيران لاعباً إقليمياً ودولياً غير قابل للتجاهل. ولا تزال رمزية الإمام الخميني للثورة الشعبيّة السلمية القادرة على هزيمة نظام بقوة نظام الشاه، تلهم كل مَنْ يفكّر بمفهوم للثورة الشعبية السلمية، كما تمثل تجربته علامة فارقة في إعادة تقديم الإسلام كصانع حضاريّ سلميّ للسياسة في العالم الجديد، من موقع الاستقلال السياسي وخصوصية الهوية الثقافية ونموذج العقائدية المنفتحة.

– في مسيرة السيد حسن نصرالله وصولاً إلى سياق استشهاده، حقيقة واحدة تتحرّك اسمها فلسطين، ومع كل التقدير للدور الذي قامت به القوى الفلسطينية المقاومة، فإن إعادة طرح القضية الفلسطينية في الخطاب العربيّ المؤثر، وبناء تيار شعبي عربي وإسلامي وعالمي، بعدما نالها من التهميش ومشاريع التصفية ما جعلها في آخر جدول الأعمال، حتى كاد يطويها النسيان، وكانت مثابرة السيد على إعادة تقديم القضية الفلسطينية وربط مصائر استقلال كيانات المنطقة واستقرارها بها، عاملاً حاسماً في تكوين تيار شعبيّ كبير يستعيد علاقته بفلسطين، وينظر إلى المقاومة كخيار فكريّ وثقافي، كما صاغته كلمات السيد نصرالله بمهارة وعمق وقدرة استثنائيّة على الإقناع والدخول إلى القلوب والعقول، وتوظيف قوة المقاومة في لبنان وانتصاراتها لخدمة تعميم فكرة فلسطين وربط مستقبل العالمين العربيّ والإسلاميّ بتحريرها وحرية شعبها.

– لقد نجح السيد نصرالله مرّتين، في جعل قضية زوال “إسرائيل” قضية واقعيّة، بعدما كان اليأس قد بلغ حد اقتناع غالبية كاسحة عربياً وإسلامياً بأن القضية الفلسطينية انتهت. فقد نجح مرة أولى عندما وظف انتصارات المقاومة وقوتها في لبنان لطرح مستقبل قدرة “إسرائيل” على البقاء في عقول المستوطنين الإسرائيليين أنفسهم، حتى أمكن القول إن المأزق الوجوديّ للكيان هو مأزق صنعه وسوّقه بين الإسرائيليين، شخص هو السيد نصرالله. ونجح في المرة الثانية عندما كرّس وقته وخطابه وانتصارات المقاومة وقوتها ليصنع تياراً شعبياً عربياً وإسلامياً يؤمن بواقعية طرح زوال كيان الاحتلال، واعتباره مشروعاً ممكن التحقيق.

– عندما قرّر السيد فتح جبهة الإسناد وتحديد شعارها بمنع هزيمة المقاومة في غزة، كان يعلم أن الهدف سوف يتحقق، كما كان في كل معاركه وحروبه، لكنه في هذه الحرب كان يدرك أكثر من أي حرب أخرى أنّها حربه، حرب فلسطين التي قد لا تتكرّر وأنه طالما أراد أن يكون شهيداً، وشهيد فلسطين خصوصاً، فإن هذه هي فرصته لنيل الشهادة، وهو لذلك لم ينصت لنداءات مغادرة مواقع كان يعلم أنها مستهدَفة وقابلة للاستهداف، حتى نال مرتجاه، لكن بعد أن تعلّم من تجارب الآخرين، وترك من بعده مؤسسة ثبت في الواقع، أنها عصيّة على الكسر والتصفية، وأنّها حزبياً وسياسياً وعسكرياً قدّمت أداء استثنائياً مفاجئاً، بعد فقدانه وصولاً إلى انتزاع نصره الذي وعد بأن مستوطني شمال فلسطين لن يعودوا حتى تخرج حماس منتصرة، فخرجت حماس منتصرة ولم يعودوا بعد.

ترك السيد نصرالله خلفه تياراً شعبياً مزوّداً بمعارف من النادر أن نجد قائداً كرّس حياته لزرع بذارها بين الناس بمثل ما فعل السيد نصرالله، حتى أننا عندما نسمع رجالاً كبار السن وشباباً يافعين ونساء مسنّات يتحدّثون عن الصراع في المنطقة، وما سمعناه خصوصاً في مسيرات العودة، نستشعر كلمات السيد ومعادلاته تتكرّر على ألسنتهم بصورة مذهلة في تسلسلها المنطقيّ وتشرّبها واحتوائها وإعادة صياغتها، وهذا النهر المعرفي الغزير والشامل ما كان متيسّراً للبسطاء والفقراء لولا أن أتاحت لهم خطابات السيد نصرالله على مدى ثلاثة عقود بذل خلالها جزءاً كبيراً من قوته لتعليم هؤلاء البسطاء والفقراء قواعد علوم السياسة والحرب والاستراتيجيات.

– عظمة السيد نصرالله، أنّه سيد فلسطين، وأنه ترك لفلسطين تياراً عربياً إسلامياً كبيراً يؤمن بصواب خيار المقاومة وواقعيّة زوال الكيان، وترك لفلسطين مقاومة مقتدرة حكيمة وشجاعة في آن، تعلّمت من السيد أصول الحرب والسياسة وفنونهما ومناورات التفاوض والتربّص، وقيمة الوقت وذكاء التوقيت، لذلك من حقنا أن نحزن لفقدانه ونحن نفرح له بنيل ما أراد وتمنّى، ولكن دائماً بثقة أن المقاومة بخير وأن سلاحها معها وبخير وشعبها معها وبخير، وأن طوفان الوفاء للسيّد يوم التشييع هو طوفان آخر لفلسطين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى