الاستعصاء الإقليمي هو الأهم
![](https://www.al-binaa.com/wp-content/uploads/2024/08/ناصر-قنديل-نيو.jpg)
ناصر قنديل
– ينصرف الكثير من المحللين والمتابعين والكتاب للانشغال بتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ولعل هذا ما يريده ترامب من تصريحاته، أي احتلال الرأي العام لصرف النظر عن أفعال حقيقيّة وعن تحديات ووقائع حقيقيّة، أو لفتح الباب للتفاوض تحت غطاء ناريّ توفره تصريحاته، بينما في الواقع تعيش المنطقة في قلب توازنات ومعادلات يصعب إنكارها، وهي ما يتولى رسم صورة المشهد المقبل، حيث مواقف الرئيس الأميركي أحد عناصر المشهد الكبير، وليست كل المشهد، بل لعلها نتاج عناصر غير مرئية من المشهد، أو نتاج عناصر لا تحظى بالاهتمام اللازم في الرأي العام ولدى المتابعين والكتّاب والباحثين وصنّاع السياسة.
– أول أركان صناعة المشهد الجديد هو ما قالته الحرب التي امتدّت على مدى سنة وربع السنة، وانتهت باتفاق وقف إطلاق النار في كل من غزة ولبنان. وفي كل اتفاق نصوص وقّع عليها كيان الاحتلال تلزمه بالانسحاب من الأراضي التي احتلها، وبعودة النازحين الذين هجّرهم، من دون أن يتمكن من هزيمة أو نزع سلاح المقاومة التي قاتلته. وفي كل ذلك وضوح الفشل الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب، رغم كل الخسائر التي ألحقها بقوى المقاومة. والفشل الإسرائيلي في تحقيق أهداف هذه الحرب جاء بعدما توافرت لـ»إسرائيل» شروط غير قابلة للتكرار للفوز، سواء لجهة مدة الحرب أو لجهة حجم التغطية والدعم المفتوح من أميركا، أو لجهة التوحّش والإجرام في خوض الحرب واستهداف المدنيين، وما نتج عن الحرب خصوصاً على مستوى الوضع الداخلي في الكيان وفي قدرة جيش الاحتلال على خوض الحروب البرّية وفي كفاءة القبة الحديديّة وفي سمعة الكيان وصورته في الرأي العام الغربي، ما يتكفّل بجعل أي حرب مقبلة أقل قدرة على تحقيق الأهداف التي فشلت هذه الحرب في تحقيقها. وهذا يعني ولادة معطى استراتيجي جديد وهام جوهره سقوط خيار حل القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية.
– أي حديث عن حرب جديدة أميركية أو إسرائيلية أو أميركية إسرائيلية يقفز على هذه الحقيقة، هو تجاوز للوقائع التي تصنع قرار الحرب، لكن سقوط الخيار العسكري أمر لا تستطيع «إسرائيل» تحمّل الإقرار به، لأنه إعلان نهاية لفلسفة قيام واستمرار «إسرائيل» على قيد الحياة، من جهة؛ ومن جهة مقابلة يحمل الإقرار بسقوط الخيار العسكري، اعترافاً بالحاجة لفتح مسار الحل السياسي، وعنوانه القبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، في ظرف سياسي محكوم بحدوث تحول تاريخي داخل الكيان، حيث فعلت الأسباب الديمغرافية والعقائدية الصهيونية والحروب الفاشلة وتعاقب الأجيال السياسية والدينية، فعلها لإنتاج «إسرائيل» جديدة تقودها مفاهيم الاستيطان في جغرافيا الضفة الغربية والقدس، ما يجعل وجود نخبة سياسية إسرائيلية تنفتح على الحل السياسي ومشروع الدولة الفلسطينية شبه استحالة، وفي أحسن الأحوال وصفة لحرب أهلية إسرائيلية.
– يشكل فهم هذه التحولات الكبيرة مدخلاً لإدراك حجم الاستعصاء الذي تعيشه المنطقة، كما يشكل خلفية ضرورية لفهم أسباب التحوّل في الموقع الأميركي وانتقاله من دور محايد شكلاً وإعلامياً وسياسياً بين حلفاء أميركا من العرب من جهة و«إسرائيل» من جهة موازية، رغم التموضع العملي دائماً إلى جانب «إسرائيل» بالمال والسلاح والدبلوماسيّة، إلى موقع التطابق مع الطروحات الإسرائيلية الفجة التي يصعب إيجاد استجابة عربية لها، مهما بلغت قدرة العرب على تحمّل الإذلال. وهذا الانتقال الأميركي يتصاعد كل يوم، ولا يمكن فهم تصريحات ومواقف ترامب خارج هذا السياق، لأن «إسرائيل» لم تعد تحتمل هذا الهامش في التمايز الأميركي الذي كانت وظيفته إنتاج وهم التفاوض والحل التفاوضي وجذب أوسع الشرائح الممكنة شعبياً وسياسياً نحوه، ودفعها للعداء مع قوى المقاومة على خلفيّة هذا الوهم.
– الاستعصاء يتعاظم، والاصطفافات تزداد تبلوراً بوضوح، وما هو قادم أكثر، ولا تبدو في الأفق فرص تسويات كبرى أو حروب كبرى، التسويات الكبرى لا تجد شريكاً إسرائيلياً، وأميركا انتهت إلى غير رجعة من دورها كوسيط، والحروب الكبرى لا توجد قوة عسكرية إسرائيلية كافية لخوضها وضمان الفوز بها، ولعل هذه هي البيئة النموذجية للفوضى السياسية والأمنية، إذا غابت الخيارات العربية والإسلامية الجدية التي تستعيد مرحلة سابقة قال عنها الكاتب البريطاني ديفيد هيرست إنها مرحلة الملك فيصل واستخدام سلاح النفط.
– في قلب هذا الاستعصاء ولدت موجة لبنانية تنتمي لمرحلة الحرب وتحميل مسؤوليتها للمقاومة، في سياق الوهم العربي التفاوضي، الذي انتهى إلى غير رجعة، ولبنان سوف يجد نفسه مجبراً على إعادة التفكير بموقعه الجديد على خلفية وضع عربي جديد آخذ في التشكل، مكان وضع عربي سابق أنتج موجة عداء حاقد على المقاومة باتت اليوم بلا وظيفة عربياً، رغم أن أصحابها يتوهمون أنهم عشيّة إعلان الانتصار الكبير على المقاومة.