أولى

الرأسمالية ـ الإمبريالية ـ الترامبية

 

 سعادة مصطفى أرشيد*

 

في القرن 19 كتب صاحب النظرية الشيوعية كارل ماركس أنّ الرأسمالية هي أصل الشرور في العالم. فالرأسمالي يقوم باستعباد العامل وسرقة قيمة فائض العمل من جهده وعرق جبينه، ولكن الأب الثاني للشيوعية فلاديمير إيلتش لينين وعند بحثه في ظاهرة الاستعمار طوّر النظرية لتقول إنّ الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، حيث لا تكتفي الطبقة الرأسمالية في الدول المتقدمة بسرقة فائض قيمة العمل من البروليتاريا في بلادها وإنما تتجاوز ذلك لنهب خيرات البلاد المستعمَرة من زراعة وموارد طبيعية وأسواق، وفوق ذلك كله تستغلّ بشكل ظالم طبقاتها العاملة، ولكن مع عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة في دورته الثانية ظهر أن الترامبية هي مرحلة من مراحل الرأسمالية تتفوّق في شبقها ونهمها على الإمبريالية التي افترض لينين أنها أعلى مراحل الرأسمالية.
يريد دونالد ترامب جارة بلاده كندا، ويريد جزيرة غرينلاند التي تملكها الدنمارك وخليج المكسيك وقناة بنما وقطاع غزة الذي يبدو أنه يريده الوجبة الأولى له بوصفه النقطة الأضعف، والذي يرى أنه قادر على شرائه وطرد سكانه وليجعل منه مشروعاً عقارياً سياحياً مشابهاً لساحل الريفييرا على الساحل الغربي الشمالي الجميل لإيطاليا.
لا يعرف دونالد ترامب شيئاً عن الاثم الكنعاني وهو ما أطلقته شعوب القوط القديمة على ظاهرة الحزن والتي كانت تتبدّى مساء كل يوم على وجوه أجدادنا الذين كانوا مهاجرين إلى إسبانيا، فاعتقدوا أن أولئك الأجداد يبدون الحزن بسبب آثام ارتكبوها، فيما كانت الحقيقة أن حزنهم كان بسبب بعدهم عن أوطانهم.
في عهد الترامبية لا يرى صاحبها قيمة للأوطان والقوميات فكل شيء سلعة للبيع والشراء وعلى الضعيف أن يخضع لإرادة القوي. وهكذا يستطيع ترامب التهام غزة بساحلها وترابها ورملها وإطعام من بقي حياً من أهلها بعد الحرب التي موّلتها بلاده ونفذتها (إسرائيل) للآخرين وإنْ كانوا لا يرغبون في ذلك.
يبدي ترامب ثقة عالية بنجاح مشروعه هذا، ويؤكد أن ليس أمام مصر والأردن إلا بعض الوقت ليقبلوا في نهاية الأمر باستقبال المهاجرين الفلسطينيين إنْ من غزة وإنْ من الضفة الغربية، ولا تزعجه التصريحات أو البيانات النمطية الممجوجة طالما أنها غير مقترنة بالعمل. وهذا لا شك تطوّر طبيعيّ لمسار انطلق منذ زمن بعيد وإنْ بدأت ملامحه العلنية ظاهرة في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 في ما عُرف باسم برنامج النقاط العشر واستمرّ بالتطور مروراً باتفاق أوسلو وملاحقه، وكأنّ ما سبق كان المقدمات للوصول الى هذه المرحلة. يُضاف الى ذلك انهيار منظومات الأمن القومي للدول في بلادنا التي أصبحت تهتمّ بالأمن الشخصيّ للحاكم وضرورات بقائه ولو على حسابات الأمن القومي للوطن.
مشروع ترامب لا يتوقف عند غزة وإنما يسير بمسار موازٍ آخر في الضفة الغربية التي يجتاحها جيش الاحتلال، ومَن يتابع ما جرى في مخيّمات جنين وبعض أحياء مدينتها وكذلك في مخيمات طولكرم والفارعة يرى نموذجاً آخر مشابهاً لما جرى في غزة من حيث القتل والتدمير، ويؤكد أنّ مسألة اللاجئين وحق العودة قد آن أوان شطبها نهائياً من أذهان أبناء وأحفاد اللاجئين الأوائل بتصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأنروا) وإنهاء خدماتها الإغاثية والصحية والتعليمية وهدم المخيمات وتوزيع سكانها على مدن الضفة وقراها في مرحلة تسبق مرحلة التهجير إلى خارج فلسطين.
كان من اللافت في المؤتمر الصحافي الذي عقده ترامب مع نتنياهو أنّ ترامب قد كرّر القول إنّه غير واثق بأنّ وقف إطلاق النار في غزة سيصمد الأمر الذي يمكن قراءته على أنّه ضوء أخضر لنتنياهو بأن يعود للحرب، ولكن بما أنّ بنك الأهداف الإسرائيلي قد استنفد فلم يبقَ من المقاومة المسلحة إلا بقايا قليلة نفدت ذخائرها واستشهد مقاتلوها، فلن يجد نتنياهو أمامه عند استئناف الحرب إلا المدنيين العزل.
التاجر والمقاول يريد شراء قطاع غزة ووفق منطق الصفقات العقارية والأعمال التجارية فإنّ أيّ عملية شراء كهذه تتطلّب فريقين مشترٍ يدفع الثمن وهو في هذه الحالة ترامب وبائع يقبض الثمن وهو مَن لا نعرفه حتى الآن ولا نعرف الثمن المدفوع، ولكن الأكيد أنّ البائع ليس أهل غزة الذين شاهدناهم يزحفون نحو شمال القطاع فور سكوت المدافع ويرابطون فوق ركام منازلهم المهدّمة مؤكدين على صمودهم وبقائهم.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين – فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى