الورق لا يُقاتل…

أحمد بهجة
في خطابه المهمّ جداً في يوم التشييع الكبير والتاريخي للأمينين العامّين والقائدين العظيمين الشهيد الأقدس سماحة السيد حسن نصرالله والشهيد الهاشمي سماحة السيد هاشم صفي الدين، قال الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم «إنّ المقاومة تُكتب بالدماء ولا تحتاج إلى الحبر على الورق».
هذا بالضبط ما عبّر عنه الجنوبيون بالأمس خلال تشييع مئات الشهداء الأبرار الأبطال في عيترون وعيتا الشعب وغيرهما على مرأى ومسمع رئيس الحكومة نواف سلام الذي لم يرَ مَن هو أهل للتحية سوى الجيش اللبناني واليونيفيل، متجاهلاً الشهداء الذين سمحوا له بأن يطأ أرض الجنوب كما قال أحد المواطنين لرئيس الحكومة!
الجنوبيّون يحيّون كلّ يوم الجيش اللبناني وأبطاله الضباط والجنود الذين امتزجت دماؤهم بدماء شهداء المقاومة على أرضنا الطاهرة، وكذلك يحيّون ضباط وعناصر اليونيفيل الذين قدّموا التضحيات خلال عملهم في الجنوب، لكن تبقى المشكلة في القرار الأممي الذي يحول بينهم وبين تأدية واجباتهم بشكل متوازن كما ينص القرار 1701، إذ نرى انّ تقاريرهم لا تخبر الحقائق دائماً وتأتي غالباً منحازة إلى العدو «الإسرائيلي» كما يرغب الذين يتحكّمون بقرار الأمم المتحدة ومجلس أمنها ومسؤوليها ومندوبيها…!
بالعودة إلى الحكومة ورئيسها لا بدّ من القول إنّ زيارة الجنوب مبادرة جيدة رغم ما ورد من ملاحظات، لكن الالتزام بما صرّح به الرئيس نواف سلام في ما يخص السعي لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي الكامل من أرضنا المحتلة، وبإعادة الإعمار والبناء في وقت غير بعيد… هذا الالتزام وتنفيذ ما جاء فيه من شأنه أن يجعل الجنوبيين يتسامحون ويغضّون النظر عن ما لديهم من ملاحظات، وهم أصلاً يعملون ليل نهار لتكريم الشهداء الذين صنعوا لنا هذا العزّ وهذه الكرامة…
إذن… لتكن الأولوية الحكومية هي العمل بوسائلها على استكمال انسحاب جيش العدو «الإسرائيلي» من كامل النقاط المحتلة في الجنوب سواء التي جرى احتلالها خلال الحرب الأخيرة والمعروفة بالنقاط الخمس أو تلك التي لا تزال محتلة منذ اندحار جيش العدو عن أرضنا الجنوبية في العام 2000، ونعني بها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، ومنطقة رأس الناقورة التي دخل إليها العدو عام 2006، «لأسباب نفطية وغازية معروفة»!
ما تقدّم يعني التطبيق الكامل للقرار 1701 وصولاً إلى الحدود المعترف بها دولياً المُرسَّمة في العام 1923 والمؤكد عليها في اتفاقية الهدنة عام 1949، والتي جرى تأكيدها في كلّ القرارات الدولية لا سيما القرار 425.
وقد سمعنا بالأمس وزير الحرب في كيان العدو «يسرائيل كاتس» يقول إنهم أخذوا إذناً من الولايات المتحدة لكي يبقوا على احتلالهم للنقاط الخمس في جنوب لبنان، دون قيد زمني، وهذا أمر مستغرب جداً أولاً لأنّ واشنطن لا تستطيع إعطاء إذن لاحتلال أرض لا تملكها، وثانياً لأنّ الولايات المتحدة هي إحدى الدول الراعية لاتفاق وقف الأعمال الحربية الذي دخل حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024، وهو عبارة عن خطة وترتيبات لتنفيذ القرار 1701، وبالتالي على واشنطن كـ ضامن للاتفاق أن تردّ بوضوح وصراحة على ما قاله وزير الحرب في كيان العدو، علماً أنّ الخارجية الفرنسية أصدرت بياناً دعت فيه إلى انسحاب إسرائيلي كامل من جنوب لبنان تنفيذاً للاتفاق وللقرار 1701، وهذا ما يجب أن تفعله أميركا.
على أنّ الأمر الأكثر غرابة هو عدم صدور أيّ موقف عن وزارة الخارجية اللبنانية في حين أنّ الحكومة التي أخذت بالأمس ثقة موصوفة من المجلس النيابي تعهّدت في بيانها الوزاري وفي ردّ رئيسها نواف سلام على مداخلات النواب، تعهّدت بأن تحشد كلّ الدعم العربي والدولي لكي يتحقق الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب! وهذا أيضاً ما تعهّد به رئيس الجمهورية في خطاب القسم…
والقضية المهمة التي توازي أهمية إتمام انسحاب جيش الاحتلال هي قضية إعادة الإعمار والبناء في كلّ المناطق التي تعرّضت للعدوان الإسرائيلي الهمجي والبربري، وهذا ملفّ لا يحتمل أيّ تأجيل أو تسويف، ولا ينتظر أيّ إذن من هنا أو هناك… وأيضاً التزمت الحكومة بالعمل الجاد في هذا المجال، لكن المؤشرات الخارجية لا تبشر بالخير إذ بدأ الحديث عن شروط يجب على لبنان تنفيذها لكي يحصل على الأموال لإعادة الإعمار، من هذه الشروط الحديث عن الإصلاحات ومكافحة الفساد وغير ذلك من كلام ممجوج منذ عقود في لبنان، وهو أقرب إلى الكلام السياسي منه إلى أيّ توجه إصلاحي لأنّ من يتحدث عن الإصلاح هو أكبر داعم لمافيات الفساد في البلد وكانت التدخلات لا تتوقف لحماية هذا المسؤول أو ذاك وتجنيبه أيّ محاسبة او مساءلة!
كما بدأ الحديث الصريح عن مسار التطبيع مع كيان العدو، وهذا من سابع المستحيلات أن يحصل في لبنان طالما أنّ مقاومتنا موجودة وقوية وقادرة على منع أيّ توجه من هذا النوع سواء في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب…
ولن يتأخر الوقت كثيراً حتى يتأكد الجميع مما هو مؤكد أصلاً بالنسبة لنا بأن لا أحد مستعدّ لمساعدة لبنان من دون شروط أو قيود أو مطالبات سوى الجمهورية الإسلامية في إيران، وهذا أمر سيفرض نفسه قريباً أمام كلّ المسؤولين حين يجدون أنفسهم في مواجهة الأسئلة الكبرى من الناس الذين لن يقبلوا بأيّ شكل من الأشكال ولن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام بيوتهم وقراهم وبلداتهم المهدمة…