أولى

عواصف التغيير في الغرب

 

 زياد حافظ*

 

مَن يراقب تسارع الأحداث في الغرب، بدءاً من الولايات المتحدة ووصولاً إلى القارة العجوز يخلص إلى نتيجة واضحة وهي أنّ عواصف التغيير وليست رياحه هي التي تتصدّر المشهد. والمحرّك الأساسي لتلك العواصف وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رغم المحاولات المتعدّدة لإقصائه عن الترشّح ثم الفوز عبر الملاحقات القانونيّة وحتى محاولات القتل. فما لا يقضي عليك يقوّيك وهذا ما حصل بالفعل. فاليوم دونالد ترامب ليس رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية فحسب، بل زعيم يقود ثورة شعبوية تصيب في الصميم معالم ومكوّنات الدولة العميقة في الولايات المتحدة. فسلسلة الإجراءات التي اتخذها خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من ولايته الجديدة كانت بمثابة هجوم صاعق على عدد من مكوّنات الدولة العميقة خاصة في أجهزة الاستخبارات والأمن ومكامن الفساد فيها. والحبل على الجرّار في ما يتعلّق بالمجمّع العسكري الصناعي سواء في البنتاغون وشركات التصنيع العسكري وحتى الكونغرس الأميركي الذي يتماهى مع ذلك المجمّع. فما هي الإجراءات التي اتخذها ترامب وفريقه في الأسابيع الأولى من ولايته الثانية؟
أولاً ـ هناك سلسلة من الإجراءات اتُخذت عبر قرارات تنفيذيّة صادرة عن الرئيس وغير خاضعة لموافقة الكونغرس الأميركي. وهذه الإجراءات تناولت الحدّ من الهجرة الوافدة غير شرعيّة وذلك تنفيذاً لوعود قطعها مع ناخبيه في حملته الانتخابية. كما أصدر سلسلة أوامر تنفيذية ألغت ما أقدمت عليه الإدارة السابقة وتتعلق بمواضيع شتى أهمها تلك القرارات التي لها طابع قيمي واجتماعي كإلغاء سياسة التنوّع والمناصفة والاحتواء التي فرضت قسراً في مختلف مؤسسة الدولة سواء على الصعيد الاتحادي أو على صعيد الولايات وحتى في الشركات الكبرى التي تتعامل وتتعاقد مع أجهزة الدولة. وهناك إجراءات أخرى تتعلّق بحق المواطنة لمواليد المهاجرين غير الشرعيّين والحد من الاستفادة من التقديمات الاجتماعيّة لهم.
ثانياً ـ هناك إجراءات أخرى تستهدف مرتكزات الدولة العميقة عبر صرف عدد كبير من موظّفي الدولة الاتحادية وخاصة في أجهزة الأمن والاستخبارات المركزية. كما اتُخذت إجراءات في قطع التمويل لمراكز القوّة داخل الدولة عبر إلغاء وكالات كالوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو أس أيد). فهذه الوكالة تشكّل الذراع الأساسية للقوّة الناعمة الأميركيّة في الخارج عبر تمويل مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بتحريض على الحكومات التي لا تمتثل للإرادة الأميركية. فهذا القرار بجعل الوكالة تابعة لوزارة الخارجية ويقوّض من ميزانيّتها واستقلاليّتها. وعلى ما يبدو فهناك مكامن للفساد المالي استفادت منه القيادات التي توالت على إدارة تلك الوكالة. وتلا هذا القرار قطع تمويل صندوق تمويل تمكين الديمقراطية التابعة لوزارة الخارجية التي كانت تموّل وسائل الإعلام المضادة للحكومات في الدول التي لا تمتثل لإملاءات الولايات المتحدة.
ثالثاً ـ الاستراتيجية المتبعة من قبل الإدارة الجديدة في مواجهة الدولة الإدارية الاتحادية التي تشكل إحدى ركائز الدولة العميقة هي عبر إقفال مصادر التمويل. لذلك كان تعيين أحد الموالين لترامب إلى مركز مدير الموازنة خطوة أساسيّة في قطع التمويل على تلك الوكالات الاتحادية التي اعتبرت نفسها مستقلّة عن السلطة التنفيذيّة. وقرارات ترامب تهدف إلى إعادة السلطة إلى السلطة التنفيذية المنوطة بموقع الرئاسة وليس بموقع الدولة الإدارية الاتحادية. هذا يفتح باب سجال عميق وعنيف على الصعيد القانوني، علماً أنّ الدستور الأميركي ينص بشكل واضح وصريح على أنّ السلطة التنفيذيّة منوطة بالرئيس وليس بأيّ جهاز آخر.
رابعاً ـ وعلى الصعيد الاقتصاديّ اتخذت الإدارة الجديدة إجراءات تعيد الاعتبار لاستخراج النفط والغاز من الأراضي التي تملكها الدولة الاتحاديّة ضارباً عُرض الحائط قرارات إدارة بايدن بتقويض الاستخراج النفطي تنفيذاً لطلبات البيئويين. وعلى صعيد آخر اتخذت الإدارة سلسلة قرارات في حماية الإنتاج الأميركيّ عبر فرض تعريفات جمركيّة على سلع الدول التي تنافس الولايات المتحدة كالصين والمكسيك وكندا ودول الاتحاد الأوروبي. صحيح أنه تراجع عن بعضها موقتاً بسبب ردود الفعل، ولكنها ما زالت تُعتبر ركيزة السياسة الاقتصادية الجديدة التي تنقض مفاهيم فرضتها العولمة التي قضت على التعريفات الجمركيّة. فالشعار “لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى” يُعتبر إقراراً ضمنيّاً بتراجع مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصاديّ، وبالتالي الانكفاء نحو الداخل الأميركيّ لإعادة بناء القدرات الاقتصادية عبر إعادة توطين الصناعات التي صُدّرت للخارج.
خامساً ـ أما على صعيد السياسة الخارجيّة فقد حرّك ترامب المياه الراكدة في الملفّات التي عجزت إدارة بايدن عن حلّها أو لم تُرد حلّها لأنها قد افتعلتها بالأساس. فبالنسبة للملف الأوكرانيّ بات واضحاً أنّ الولايات المتحدة تريد الخروج من ذلك المستنقع. وسلسلة المواقف التي اتخذتها الإدارة بالنسبة لمقاربة الملفّ والتعامل مع روسيا هي انقلاب على مسار بدأ منذ ولاية كلينتون في محاصرة روسيا عبر توسّع الأطلسي شرقاً ووصل إلى مرحلة العداء الصريح في إدارة بايدن، حيث كاد ذلك المسار أن يؤدّي إلى مواجهة نووية بين العملاقين. فالمكالمة التي جرت بين ترامب وبوتين أدّت إلى اللقاء بين وزيرَيْ الخارجية الأميركي والروسي في الرياض. ومن الواضح أنّ المنحى الأميركي هو إعادة العلاقات بين العملاقين إلى نوع من التطبيع ما زرع الهلع بين قيادات الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الغربية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا التي اعتبرت أن ذلك يشكّل تخلّيًا عن أوروبا. وما زاد من ذلك الهلع ما جاء في خطاب نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس في ميونيخ ليحمّل مسؤولية الحرب في أوكرانيا على الأوروبيين وأنّ العدو ليس روسيا، بل هو الداخل الأوروبيّ. وأضاف أنّ القيادات الأوروبية ابتعدت عن المفاهيم الديمقراطية ما أدّى إلى فقدان القيم المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا. وما زاد الطين بلّة تصريحات ترامب ووزير دفاعه بيت هيغسيت عن رغبة الإدارة في تخفيض موازنة الدفاع بنسبة 50 بالمئة بالتنسيق مع كلّ من روسيا والصين. هذا يعني انكفاء عن الدور العسكري التي لعبته الولايات المتحدة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. فتلازم قطع التمويل عن الوكالات التي كانت مهمتها تمويل المؤسسات غير الحكومية في الخارج وتخفيض النفقات الدفاعية التي ستكون على مراحل يعني أن المنحى الأميركي هو منحى انكفائي.
فما معنى الانكفاء بهذه الظروف؟ في رأينا هذا الانكفاء طبيعي نظراً للتحوّلات التي حصلت في البنية السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة والتي أفقدت عناصر القوّة التي كانت تتمتع بها بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. التحوّلات الداخلية في الولايات المتحدة التي حصلت بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي نقلت القاعدة الإنتاجية الصناعية الأميركية إلى الخارج مما أفقد القدرة على الإنتاج العسكري بشكل يواكب أي مواجهة عسكريّة طويلة المدى. هذا ما حصل في أوكرانيا حيث الترسانة الأميركية أفرغت من الذخائر والمعدّات وعجزت شركات التصنيع أن تلبّي الطلب. كما أنّ الحروب الخارجية التي شنتّها إدارات متتالية ساهمت في تفاقم الدين العام الذي وصل إلى أكثر من 36 تريليون دولار والحبل على الجرّار. فالانكفاء نحو إعادة بناء الداخل هو ضرورة لبقاء الولايات المتحدة ككيان سياسي وازن في العالم.
والانكفاء الأميركي سيؤثّر في مستقبل الكيان الصهيوني. لذلك نرى إدارة ترامب تضغط على عدد من الدول العربية لفرض التطبيع مع الكيان لأن لن تكون الولايات المتحدة قادرة على دعم الكيان إلى ما لا نهاية. وإذا فشلت تلك المحاولات وتلازمت مع عجز قوّات الاحتلال على السيطرة على موازين القوّة التي فرضتها المقاومة في كلّ من لبنان وفلسطين واليمن وإلى حدّ ما في العراق، فإن الدور الوظيفي للكيان قد يكون انتهى وبالتالي لا يجب استبعاد احتمال تخلّي الولايات المتحدة عن دعم الكيان. قد يكون هذا الكلام صادماً عند عديد من النخب العربية التي اعتبرت أنّ ذلك الدعم الأميركي للكيان لا نهاية له. فالكونغرس الأميركي المنحاز كلّياً للكيان سيجد نفسه يواجه ناخبين غير راضين عن ذلك الدعم باستثناء بعض الفئات الإنجيليّة المتطرّفة. وحتى تلك الجاليات الإنجيلية ستجد أن أسطورة إقامة مملكة الكيان تمهيداً لسيدّنا المسيح عليه السلام أصبحت عبثيّة ومضرّة خاصة بسبب السلوك الوحشي الذي يمارسه الكيان قيادة ومجتمعاً والمتنافي مع تعاليم سيدنا المسيح. لا نقول إنّ هذا التحوّل إلى التخلّي سيحصل في الأشهر المقبلة ولكن تسارع الأحداث يجعل الأفق الزمني للتحوّل ليس ببعيد.
أما أوروبا التي أوجدت هذا الكيان فإنّ دولها تواجه تحدّيات داخلية كبيرة قد تطيح بالنظام السياسي القائم فيها. والعجز العسكري لهذه الدول تبيّن بشكل واضح في أوكرانيا وسوء تقدير تلك القيادات التي استهدفت روسيا ساهما في تسريع التقلّبات الداخلية في كلّ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، الدول الرئيسية في أوروبا الغربية. والموجة العاصفة الشعبويّة الصاعدة في أوروبا تعني انقلاباً على سياسة العولمة وتجاوز الاعتبارات الوطنية وخاصة الموروث الثقافي لها. فالعودة إلى دولة الأمة هو رفض للدولة الخاضعة للشركات العملاقة وثقافة منتدى دافوس. وهذا الصراع قد يمتدّ سنوات ما يقوّض أيّ دور سياسي عالمي لأوروبا. إرهاصات ذلك التهميش ظهرت في استبعاد أوروبا من المحادثات الأميركية الروسية حول أوكرانيا والطاقة والمشرق العربي وغرب آسيا.
العواصف التي تعصف بالغرب أسبابها عديدة منها داخليّة ومنها خارجيّة. ومن الأسباب الخارجية الحروب العبثية التي شنتها منذ نهاية الحرب الباردة والتي دمّرت مقدّراتها إضافة إلى مقدّرات الدول المستهدفة. فاحتلال العراق كان بداية التراجع الأميركي والمقاومة في المشرق العربي خلقت موازين جديدة شرحناها في سلسلة مقالات وأبحاث ومداخلات. المهمّ أنّ ما نشهده هي معارك خلفيّة تقوم بها الولايات المتحدة للحفاظ على قشور مظاهر القوّة. فالتصريحات النارية والاستعراضية للرئيس الأميركي تتناقض مع ما يقوم به فعلياً. وأفعاله أكثر واقعيّة بكثير من تصريحاته كالتهديد بفرض المزيد من العقوبات على روسيا بينما قنوات الحوار مع روسيا مفتوحة وتجنح نحو التفاهم. التهديد بفرض تعريفات جمركيّة على كلّ من كندا والمكسيك سيليه ضغط معاكس من كندا والمكسيك. فتشابك المصالح سيقوّض من إمكانية فرض قرارات أحادية. أما في ما يتعلّق بـ “ريفييرا غزة” فتراجع سرعان عندما وجد معارضة عربيّة واضحة له. هذا يعني أنّ الضغوط التي يمكن أن تفرضها على بعض الدول العربية للتطبيع يمكن مواجهتها بضغوط معاكسة. كيف ذلك؟ فهذا من شأن النخب المقاومة للتطبيع التي تملك أوراقاً عديدة رغم تخاذل قيادات الدول المستهدفة التي ستضطر أيضاً لاتخاذ تدابير مقاومة للضغوط الأميركية بالأساس. فالصمود في هذا الموضوع واجب وهو عمل مقاوم ووطني وقومي.

*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى