زيارتان إلى البيت الأبيض

سعادة مصطفى أرشيد*
قبل حوالي أسبوعين زار الملك عبد الله الثاني واشنطن والبيت الأبيض وفي المؤتمر الصحافي الذي عقد إثر اللقاء لم يُعفِ الرئيس الأميركي ضيفه من الإحراج، مرة حينما سُئل إن كان سيعطي الأردن ضمانات بعدم ضمّ (إسرائيل) الضفة الغربية، فأجاب أنه متأكد أن خطة الضم ستنجح، وحين سئل عن خطته لتهجير أهل غزة إلى مصر والأردن، أحال ترامب السؤال للملك عبد الله الثاني الذي لم يكن يتوقع ذلك إضافة إلى أنه في وضع لا يستطيع فيه أن يرفض الخطة أو أن يتحدّى الرئيس ترامب لأسباب سياسيّة ولأسباب تتعلق بقواعد الدبلوماسية والتهذيب التي اعتاد عليها، وإن ثبت أنها غير نافعة أو مفيدة مع أسلوب الرئيس الأميركي الفظ وشخصيته العاصفة، فلم يكن أمام الملك إلا الاستنجاد بالموقف العربيّ الضعيف قائلاً إن لدى مصر خطة قادرة على إرضاء الجميع وإن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد دعا مصر والأردن لقمّة في الرياض لمناقشة الخطة المصريّة.
خطط الرئيس ترامب وسياساته لا تهدّد فلسطين فقط وإنما الجميع وأول هؤلاء هم مَن عقد اتفاقات السلام مع دولة الاحتلال وإن افترض هؤلاء أن ذلك يحميهم فإذا بهم يصبحون أول مَن يدفع الثمن. افترضت مصر أن توقّعها اتفاقيّة سلام مع (إسرائيل) ستجعلها متخفّفة من الحرب وأعبائها ومتفرّغة للبناء الداخلي، الأمر الذي ثبت عكسه في السياسة أو في الاقتصاد. وافترض الأردن أن توقيع اتفاق وادي عربة من شأنه ضمان وجود الأردن النهائيّ والأبدي كوطن للأردنيّين، الأمر الذي يثبت فشله في كل يوم خاصة مع خطة كهذه قد تطيح بالدولة الأردنيّة بشكلها الحالي وتدفع باتجاه تحويلها إلى دولة فلسطينية او ما يعرف باسم الوطن البديل للفلسطينيين الذي سيتمّ تهجير أهل الضفة الغربية وغزة إليه، وربما من فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 (فلسطينيي الداخل).
لم تقرع خطط ترامب جرس إنذار ولم يؤدِ إحراجه للملك عبد الله إلى إشعال ضوء أحمر، وإنما عقدت القمّة المنتظرة في الرياض بحضور الدول الخليجيّة + اثنين (مصر والأردن)، لم تخرج القمة ببيان او بمؤتمر صحافي وإنما تسرّبت أخبار لم تنفها الدول المشاركة في القمه، أفادت أن العرب المجتمعين يرون تقديم بديل لخطة ترامب وهو باستعدادهم لتنفيذها بحذافيرها وإيصالها إلى النتائج ذاتها التي يريدها الرئيس الأميركي وإن اختلف الشكل لا المضمون، وذلك بإعادة إعمار غزة عربياً في المستقبل، وإن السبب في التدمير الذي أصابها كان الهجوم الفلسطينيّ في السابع من تشرين الأول 2023 باعتباره عدواناً من المقاومة على (الآمنين والأبرياء وعلى دولة «إسرائيل»)، وبالتالي فإن ما سوف يحول دون إعادة تدمير غزة هو إنهاء المقاومة، وذلك شرط لا بدّ منّة للشروع في إعادة الإعمار، ولكن إعادة الإعمار تحتاج إلى إزالة الأنقاض التي قد يلزمها فترة زمنيّة حدّها الأدنى ثلاث سنوات، ثم إعادة الإعمار التي تحتاج إلى حد أدنى 15 عاماً إن سارت الأمور بسلاسة ودون عراقيل، لذلك لا بدّ من إيجاد مكان يعيش فيه أهل غزة عقدين من الزمن ليستطيعوا بعدها العودة إلى بيوتهم، وهذا المكان هو مصر والأردن.
يوم الجمعة الماضي زار الرئيس الاوكراني زيلينسكي البيت الأبيض، وذلك لتوقيع اتفاقيات مع الأميركان تتعلق باستثمار الثروات المعدنيّة في بلاده، وهو بذلك مستعدّ للتنازل عن جزء من ثروات بلاده القومية مقابل حمايتها من روسيا، ولذلك اعتبر أن حصوله على ضمانات أميركية مسألة أساسية، لذلك طالب مضيفه بضمانات، لكن الرئيس الأميركي لا يريد إعطاءه مثل هذه الضمانات بل يريد أن يفرض عليه هزيمة أوكرانيا وأن يسرقها ويسلبها ثرواتها وكرامتها مقابل أن السيد الأميركي الذي يدّعي أن بلاده قد دعمت أوكرانيا بـ 350 مليار دولار وهي في الحقيقة في معظمها ثمن أسلحة استعملتها أوكرانيا في حربها مع روسيا وبتحريض من واشنطن وخسرت في هذه الحرب أكثر مما ربحت، وكانت هذه الحرب في جانبها الأهم حرباً من أجل أميركا لا من أجل أوكرانيا التي قد قاتلت بالسلاح الأميركي بالنيابة عن واشنطن بالأسلحة التي يطالب ترامب بثمنها.
لكن هذا الرجل القادم من علب الليل وعالم الكوميديا والتهريج كان لديه من القوة والشكيمة قدراً جعله قادراً على رفض توقيع أي عقد دون الحصول على ضمانات تحمي بلاده واستطاع الردّ على الرئيس الأميركي بشجاعة لم يرها الأميركان عند غيره، فيما لم يجد ترامب ما يتّهم به زيلنسكي في النهاية إلا أنه لم يشكر الولايات المتحدة وتعامل معها بعدم احترام، وذلك بحضوره للبيت الأبيض دون ارتدائه ملابس رسمية.
لا يوجد حول الرئيس الأوكراني زيلينسكي عالم عربي يستنجد به ويدعوه إلى قمة في الرياض، ولكنه وجد أن أوروبا بأسرها هبّت من تلقاء نفسها لنجدته، ولذلك أسباب عديدة منها أن أوروبا تشعر بالخطر الذي تمثله سياسات ترامب، ولكن السبب الأول هو أن زيلينسكي دافع عن نفسه ووجد في داخله القوة والشجاعة للتصدي لدونالد ترامب.
إلى أين ستصل الأمور مع هذا الجنون الأميركي، إن في العالم وإن في بلادنا وإن في أوكرانيا، مَن من زعماء العالم مستعدّ لزيارة البيت الأبيض ويعرّض بلاده للإحراج والابتزاز ويكون مضطراً لوضع نفسه في أحد موقفين صعبين: النموذج العربي والنموذج الأوكراني. عربياً يتّضح مما سبق أن النظام العربي سيتساوق مع خطة أميركا وأنه أعجز من التصدي لها وسيعمل على الوصول إلى النتائج ذاتها التي يريدها ترامب، وهذا ما يمكن قراءته عند متابعة أخبار القمة العربية يوم الاثنين الماضي، التي توقع أصحاب النيات الحسنة أنها ستخرج بموقف عربي موحّد وقويّ قادر على مواجهة خطة ترامب بالتهجير وتهديدات نتنياهو بمواصلة الحرب، النتائج جاءت منسجمة مع الواقع المتهافت للنظام العربي، وبدت القمة باهتة بغياب المغرب العربيّ والأطراف المؤثرة والقادرة على تمويل المشروع المصري (السعودية والإمارات). وهكذا جاء البيان الختامي بلا جديد سوى تكرار التصريحات الرسمية التي لا يصدّقها أحد ولا قيمة لها في ميدان الفعل: رفض التهجير – خطة إعمار غزة – تعزيز دور السلطة الفلسطينيّة بقيادة أكثر تماهياً مع تل أبيب – وحل الدولتين، في حين لم يتحدّث البيان عن آليات عمل. كل ذلك قوبل برفض من واشنطن وتل أبيب وبهذا ينطبق القول الشعبي: (كأنك يا ابو زيد، ما غزيت).
أما في أوكرانيا فقد يكون من المبكر معرفة نتائج هذه المواجهة، ولكن الأكيد أنها ستكون أقل تكلفة من كلفة خنوع النظام العربي.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة