أولى

في وداع الشهيدين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين

 

 د. جمال زهران*

 

السيدان حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، يستحقان عن صدارة هذا الوداع الملايينيّ، لأنهما وهبا حياتهما، بلا تردّد، وفي منتهى الشجاعة للقضية الفلسطينية عموماً، وغزة خصوصاً، بعد تعرّضها لأكبر عدوان صهيوني/ أميركي، منذ النكبة في مايو/ أيار 1948م، وذلك يوم الأحد 23 فبراير/ شباط 2025م. وقد تشرّفت بالمشاركة في هذا الوداع، ويوم التشييع الموضح، وقد اعتصرني الحزن وخيّم عليّ الألم الشديد، وهما (الحزن والألم) لفقدان قيادتين عظيمتين بلا شك، لا يحتمل غيابهما على هذا النحو، وفي خضم “المعركة الكبرى” بين المقاومة بمختلف فصائلها وساحاتها، وبين الكيان الصهيوني، وكادت أن تحسم الصراع مع العدو الصهيوني/ الأميركي/ الأوروبي، الاستعماري، لصالح المقاومة، وإلى الأبد.
وقد سخّرت قلمي في خدمة المقاومة ودعمها بكلّ فصائلها وفي كلّ ساحاتها، بلا تمييز، لأنها وجهت كلّ سلاحها ومقدّرات قوتها، إلى صدر العدو الصهيوني، لتحرير فلسطين الكاملة من النهر إلى البحر. فدائماً أقول وبلا تحفظ، إنّ موقفي السياسي والوطني والعروبي، هو أنني مع كلّ مَن يحمل السلاح، ويوجّهه إلى صدر العدو الصهيوني من أجل تحرير فلسطين، ومن ثم فإنني ضدّ التطبيع مع هذا الكيان، وضدّ الاعتراف به، ولا صلح مع هذا العدو الغادر، وأنّ ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة، فإذا كان هذا هو موقفي، فهل أتردّد في دعم ومساندة وتأييد المقاومة؟! وإذا كان من بين صفوف المقاومة من هم بالمتشدّدين، فأنا واحد منهم، لأنني منذ أكثر من 35 سنة، لي كتاب بعنوان: “المقاومة هي الخيار… وهي الحل”. وبدون المقاومة العسكرية، لا يمكن لفلسطين أن تتحرر. فليس هناك مجرد تجربة واحدة لشعب ودولة، أن تحرّرت بدون المقاومة ضدّ الاستعمار. وبالتالي فليس هناك مستعمر يرحل بدون مقاومة متشدّدة وعنيفة، تجبر العدو الاستعماريّ على الرحيل والفرار، والاعتراف بهزيمته ونهاية استعماره.
وقد شاركت في احتفاليّة الوداع والتشييع العالمية بجدارة، وجلست في الصف الأول أمام المنصة، على يميني الرئيس اللبناني، وحبيب الشعب اللبناني (الرئيس القائد/ العماد إميل لحود)، وعلى يساري المناضل الموريتاني أ. محمد ولد فال، وعلى بعد ثلاثة مقاعد، كان يجلس المناضل أ. حمدين صبّاحي. ورأيت داخل الاستاد بالمدينة الرياضية اللبنانية، حضوراً جماهيرياً مليونياً، ولم يكن هناك مقعد أو مكان خال بالطرقات، وازدحام ضخم، وبلغ عدد الحضور الذي رأيته بعيوني ما يقرب من المليون، بخلاف الشوارع والطرقات حول الاستاد ما يزيد عن المليون، حتى أنّ وكالة “رويترز” العالمية قدّرت عدد الحضور داخل الاستاد وخارجه بنحو ما بين (1,5 – 2) مليون فرد. كما قدّرت مصادر مسؤولة في لبنان، أنّ حجم الذين حضروا وشاركوا في الوداع والتشييع، من خارج لبنان، يقدّر بأكثر من نصف مليون، جاؤوا على نفقتهم الخاصة، حباً في السيد حسن نصر الله، ورفيقه السيد هاشم صفي الدين. فضلاً عن نقطتين بالغتي الأهمية لفتت الأنظار، وهما:
ـ عربة الوداع التي تحرّكت من أمام المنصة داخل المدينة الرياضية، وتحرّكت حول الحاضرين لإلقاء نظرة الوداع على الجثمانين، وفي تنظيم عالي، وكانت تتحرك ببطء، لكي يتمكن الجميع من النظر والوداع، وقراءة الفاتحة، وكان يجلس على السيارة وبجوار الجثامين، حارسه الخاص، الذي ذكر أنه لم يكن يتركه أبداً، حتى لحظة الاستشهاد، على يد الصهاينة، ويرتدي الملابس السوداء.
ـ كلمة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، والتي استغرقت نصف ساعة، وجزء منها أثناء تحرّك السيارة حاملة الجثامين حول الحاضرين، وتضمّنت التأكيد على استمراريّة المقاومة وحضورها، رغم كيد الكائدين، وقالها صريحة: “موتوا بغيظكم”، فالمقاومة لملمت جراحها، وشاركت بفاعليّة في المتطلبات السياسية داخل الدولة اللبنانية (انتخاب الرئيس – اختيار رئيس الوزراء). كما أكد على التحالف المستمرّ بين الثنائي الشيعي (حزب الله/ حركة أمل). فضلاً عن ذلك، فإنه أعلن التحدّي ضدّ الكيان الصهيوني، بأنّ الحزب أعاد تنظيم صفوفه، ولن يتراجع قيد أنملة عن التصدّي للعدو الصهيوني الذي لم ينسحب من كلّ الجنوب، ولا يزال موجوداً في عدة نقاط، قال عنها: إنّ نقطة مثل النقاط، فهي احتلال يستدعي المقاومة، وإنّ الردّ سيكون في الوقت المناسب حسب تقدير المقاومة في الجبهة اللبنانية (حزب الله/ أمل). كما أكد على استمراريّة مسيرة السيد حسن نصر الله، في مواجهة العدوان الصهيونيّ المستمر على غزة والضفة الغربية، وسيظلّ في تصدّ مستمرّ للعدو الصهيوني، حتى يرحل، وتتحرر فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، وتحرير بيت المقدس. وختم قوله بإنّ المقاومة ترفض الذلة، وتتمسك بالسِلّة (هيهات هيهات منا الِذلّة، ونعم نعم للسِلّة). ثم أدّينا الصلاة على الجثمانين.
إلا أنّ العدو الصهيوني، كما كنت متوقعاً، لم يترك الفرصة لتأكيد وجوده، أثناء احتفالية التشييع والوداع، وخلال كلمة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، قام بمرور (4) طائرات مرتفعة بعض الشيء، وأعقبها بـ (4) طائرات منخفضة، وتكاد أن تكون فوق رؤوس الحاضرين. فلم يرتجف رمش أحد من الحاضرين، بل وفي صيحة واحدة، الموت.. الموت لـ “إسرائيل”، وبصوت جماعيّ مدوّ ومزلزل للكيان الصهيوني، الذي كان يراقب احتفالية “التشييع والوداع”، بكلّ الوسائل. كما أنّ جماهير المقاومة، لم تتحرك نهائياً، وكأنّ الجميع يطلبون الشهادة. وتخيّلت أنّ هذه الطائرات قد ألقت قنابلها على الحضور، كما أكد رئيس الأركان الصهيوني، أنّ هذا كان محلّ تباحث في اجتماع أمني ورئاسة الوزراء! فماذا كان يمكن أن يحدث؟! ستكون جريمة جديدة للكيان الصهيوني، الذي لا يرتدع.. وتدعمه أميركا في كل المواقف الإجراميّة، وتتستر عليه، وتحميه من العقوبات! ولذلك لم يكن مستبعداً عن الحدوث، ارتكاب العدو الصهيوني جريمة عدوان جديدة على المدنيين، امتداداً لكلّ الجرائم التي لن تنسى ضدّ شعب فلسطين والشعب العربي في لبنان وسورية، وغيرهما.
وختاماً، فإنّ الرسالة من هذا الوداع والتشييع، بهذا الزخم والحضور المليونيّ، من داخل جميع فئات الشعب اللبناني، ومن خارجه من ضيوف من أكثر من (80) دولة، ومن واقع الإحصاءات الرسميّة كما نشر، هي، أن المقاومة حاضرة، ولها حاضنة شعبيّة لا يُستهان بها، وأنها مستمرة في الدفاع عن لبنان وعن القضية الفلسطينية حتى تحرير فلسطين وبيت المقدس، بل والدفاع عن الشعب العربي في كلّ مكان، ضد العدوان الصهيونيّ المتكرّر، وبلا سقف، وأنه قد آن الآوان، لردع هذا العدو الصهيوني بشكل نهائيّ.
ولذلك، فإنّ الذين يراهنون على انتهاء المقاومة التي خرجت منتصرة على العدو الصهيونيّ وعلى أميركا، نقول لهم، كما قالت احتفالية الوداع، موتوا بغيظكم، فالمقاومة مستمرة، وأنّ كلّ ما أخذ بالقوة.. لن يُستردّ بغير القوة، وأن ما لم يؤخذ بالسلاح، لن يؤخذ بالسياسة، وأن جميع مشروعات التطبيع والسلام الإبراهيمي المزعوم، ومشروعات التهجير القسري لشعب غزة، والضفة، كلها مشروعات فاشلة ومصيرها مزبلة التاريخ، وذلك باستمرار المقاومة قويّة وحاسمة، وعلى جميع الساحات والجبهات، والله المعين. وعاشت المقاومة حرة – أبية – شجاعة دوماً. وكل التحية لقادة حزب الله في لبنان، على قدراتهم التنظيمية الفائقة، وذلك في احتفالية الوداع وجميع نشاطاتهم…

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى