أميركا وليّة أمر الكيان… وتتنفّس صهيونياً

د. جمال زهران*
أثبتت الأحداث والوقائع، أنّ صاحب القرار الفعليّ في حاضر الكيان الصهيوني ومستقبله، وفي التحكم في تصرفات عصابة الحكم في هذا الكيان، هو أميركا! فالقرار النهائي في يد الولايات المتحدة، ولا تغرّنك تصرفات أي فرد من أفراد هذه العصابة ورئيسها وهو النتن/ياهو، أن يملك قراراً، بل يتصرّفون كما لو أنهم في عرض «أراجوز»، حيث يحرّك كل الشخصيات طرف واحد، لا يظهر علانيّة، وربما يظهر في الوقت المناسب! هكذا هي أميركا التي ورثت هذا الكيان الصهيوني، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومكثت فترة في ترنح وتردّد ودوار، لأنها لم تكن قد سيطرت بعد على النظام العالمي، بعد أن ورثت الاستعمار الأوروبي، ومعاهدات سايكس بيكو، ووعد بلفور (أعطى مَن لا يملك لمَن لا يستحق)، بأن تكون أرض فلسطين، هي أرض الميعاد، وقد تبدأ بجزء منها، ثم تتمدّد حتى تحقيق حلم الدولة الصهيونيّة من النيل (مصر)، إلى الفرات (العراق)، وما بينهما في سورية ولبنان والأردن والسعوديّة. فأميركا لم تكن بعد قد استوعبت الوظيفة الاستعمارية للكيان الصهيوني، لدرجة أن في عام 1956م، عندما شارك الكيان الصهيونيّ مع انجلترا وفرنسا في العدوان على مصر، بعد تأميم الزعيم جمال عبد الناصر لقناة السويس، بادرت أميركا مع الاتحاد السوفياتي، في توجيه الإنذارين الشهيرين ضدّ الدول الثلاث المعتدية بالانسحاب ووقف العدوان! كما أن ما يؤكد عدم تمكّن أميركا من استيعاب الوظيفة الاستعمارية لهذا الكيان الصهيوني، كما خطط الاستعمار التقليديّ القديم، لها، هو أنّ جون كيندي، رئيس أميركا، أعلن تعاطفه مع القضية الفلسطينية، وأظهر عدم العداء لمصر/ عبد الناصر، فأدّى ذلك إلى اغتياله، وقيّدت ضدّ مجهول. إلا أنّ القاتل هو الصهيونية العالمية بدعم من الاستعمار القديم الذي سقط بعدوانه الثلاثيّ على مصر، وذلك لتخويف مَن يحلّ محلّ كيندي، من الانحياز للقضية الفلسطينية، واعتبار عبد الناصر ومصر، عدواً للاستعمار، يجب التخلص منه.
إذن… نحن أمام حقيقتين هما: الأولى، أنّ أميركا ورثت الاستعمار الأوروبي، بل وشاركت مرة في انتصاره إبان الحرب العالمية الثانية، ثم أجهزت عليه في عدوانه من خلال انجلترا وفرنسا، بمشاركة ذيلهما الكيان الصهيوني ـ آنذاك ـ على مصر، فكان أن تعاونت (موسكو وواشنطن)، في إنهاء الوجود الاستعماري الأوروبي، لتحلّ أميركا، محله، وتبدأ في السيطرة على العالم، كوريثة لهذا الاستعمار، ومن ثم تبدأ في طرح نفسها كمركز قوة عالمي. وقد بدأت فكرة التأقلم والتموضع في شكل الكتلة الغربية في مواجهة الكتلة الشرقية، بأداتهما العسكرية (الأحلاف ـ وارسو والناتو)، وأداتهما الاقتصادية (منظمة الكوميكون والسوق الأوروبيّة المشتركة الذي تطور إلى الجماعة الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي). وقد طرحت أميركا نفسها كرمز للحريّة والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومبادئ ويلسون الشهيرة، إلا أنّ ذلك كان المقدمة لمداعبة خيال دول العالم الثالث، بل العالم كله، باعتبارها جنة الله في الأرض، وحامية الحريات من كلّ لون ودرجة، ومكثت عدة سنوات على هذا النحو! إلى أن تمّ الكشف عن وجهها الاستعماري البغيض الذي لم يتغيّر عبر الأزمنة! الثانية، كانت الرسالة من اغتيال جون كيندي، هي تتويج سيطرة الصهيونية العالمية على الدولة الأميركية العميقة، وأصبحت تديرها لحسابها، وخلعت عنها الرومانسية في الادّعاء بالحريات الـ (14)، وغيرها، بل تضمّنت رسالة تهديد صريحة لكل مَن يخرج من رؤساء أميركا عن التخلّي عن دعم الكيان الصهيوني، وبدء توظيفه لخدمة المشروع الصهيوني العالمي، والاستعمار الأميركي لبسط نفوذه على المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، خاصة بعد تفجّر آبار البترول الذي سُمي آنذاك بالذهب الأسود. وبالمتابعة والتحليل، لم يظهر رئيس أميركي واحد بعد كيندي قد تعاطف مع القضية الفلسطينية وشعبها ومقدّساتها، بل إنّ كلّ رئيس بذل جهداً في تقريب المسافات بين الكيان الصهيوني والدول العربية، كان بهدف تحقيق استقرار هذا الكيان، والسيطرة على دول عربية بعينها مثل مصر والأردن، وخلق سلطة فلسطينية عميلة مثل حكومة سايجون، في فيتنام، وقضى عليها في النهاية. أيّ أنه في النهاية، أنّ كلّ ما تمّ من اتفاقات سلام، هي اتفاقات إذعان واستسلام، وربما تكون هدنة مؤقتة مع الكيان ومع الأميركيّين، وليست اتفاقات سلام حقيقيّة. والدليل في ذلك، أنّه لم يتحقق أيّ سلام في المنطقة على الإطلاق، بل شهدنا جولات في لبنان، وفي العراق، ثم ليبيا والسودان، واليمن، وأخيراً في سورية، بإسقاط نظام بشار الأسد المقاوم والرافض للتطبيع مع الكيان الصهيونيّ أو الانصياع لأميركا. وخلال ما يقرب من خمسين عاماً على زيارة السادات للقدس واتفاقيتي كامب ديفيد، والمعاهدة المصرية مع الكيان الصهيوني، وما يزيد عن خمسين عاماً على حرب اكتوبر 1973م، لم تهدأ المنطقة، ولم تستقر، ولذلك تفجّرت المقاومة الفلسطينية، وقامت الثورة الإيرانيّة، وتكوّنت جبهات المقاومة في المنطقة، بهدف تحرير فلسطين وبيت المقدس (القدس). بل إنّ أميركا وعبر رؤسائها من 1962م وحتى الآن، وعلى مدار ما يزيد عن (60) عاماً، قاموا بدعم الكيان الصهيوني، وجعله في درجة تفوّق عالية، تتجاوز قدرات الدول العربية وخاصة البارزة منها، وهي (مصر ـ العراق ـ سورية) على وجه الخصوص. بل إنّ الأميركيين مكّنوا الصهاينة من التفوق النوعي الشامل على كلّ دول الإقليم، وإمعاناً في إذلال المنطقة، تمّ توريط صدام في غزو الكويت في أغسطس 1990م، حتى تمّ طرده من الإقليم، وقبلها الحرب مع إيران لمدة (8) سنوات (1980 ـ 1988م)، لإنهاك قدرات الطرفين (العراقي ـ الإيراني)، ثم الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام عام 2003م، والقضاء على جيشه، واحتلال العراق ونهب ثرواته البتروليّة وغيرها، وكلّ ذلك في خدمة المشروع الصهيوني واستمراره متفوقاً بأقلّ الخسائر، عن طريق تدمير الجيوش الكبرى في المنطقة (تأميم مصر عبر اتفاقيتي كامب ديفيد وتقييد قرارها وإرادتها)، ثم تدمير الجيش العراقي الذي لم تقم له قائمة حتى الآن، ثم أخيراً إسقاط الأسد وتدمير الجيش السوري بالكامل! فما الذي تبقى ليدخل المواجهة مع الكيان الصهيوني إذن؟!
لذلك فإنّ أميركا، هي الضامن الأساسيّ لاستمرار الكيان الصهيوني، وولية أمره من جانب، فضلاً عن أن أميركا ذاتها تتنفس صهيونياً، بتحالف الدولة العميقة في أميركا التي تضمن عدم خروج أيّ رئيس عن إرادتها وهيمنتها، بل حتى الكونغرس بمجلسيه، وإن تظاهر أعضاؤهما، بالحرية والديموقراطية، فهم خاضعون جميعاً لمشيئة هذه الدولة العميقة، ومموّلون من الصهيونية العالمية، ويدارون جميعاً من خلال منظمة (الإيباك) اليهودية الصهيونية في أميركا، باعتبارها أكبر لوبي ضاغط في أميركا لتنظيم العملية السياسية وإدارتها والتحكم فيها، بحيث يظلّ هذا التحالف قوياً، وعضوياً، بين أميركا والكيان الصهيوني، وكأنه أبديّ. حتى أنّ الكتابات التي تصف هذه العلاقة في مواجهة الأصوات الرافضة لاستمرار دعم هذا الكيان من أموال دافعي الضرائب، تشيع دائماً أنّ الكيان الصهيوني، يمثل الولاية رقم (51) ضمن الولايات الأميركية!
وبالتالي، فإنّ الهدف الأساسي من هذا الدعم المطلق من أميركا للكيان الصهيوني هو، إعاقة تنفيذ أي مشروع وحدوي عربي، وإعاقة التقدّم والنهضة للشعب العربيّ، وهذا ما يفسّر لنا، إصرارهم على إجهاض تجربة ناصر التنموية، وتجربة صدام، وتجربة الأسد، والقذافي، وبومدين إلخ… وإخضاع بلداننا العربية لسياسات الرأسمالية، بتعليمات الصندوق والبنك الدوليين، باعتبارهما أداتي الإصلاح، وهي مشروعات تخريبيّة، في خدمة أميركا ونفوذها، وربيبتها ممثلة في الكيان الصهيوني.
وفي هذا السياق، فإن مسارعة الرئيس الأميركي ورؤساء أوروبا، لدعم الكيان الصهيوني وإنقاذه، بعد الهزيمة المرة في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، ومحاولة قلب الانتصار الفلسطيني، إلى انتصار وهميّ للكيان، بكلّ ما يملكون من أدوات القوة، تؤكد إصرار الاستعمار الأميركي، والأوروبي، على استمرار الكيان وحمايته، واستمرار وظيفته. لذلك كان التعامل مع الطوفان، بانتقام، وليس بمجرد حرب عادية. وهنا فالعناق الأميركي الصهيوني في الاغتيالات التي حدثت مباشرة (القائد إسماعيل هنية)، و(السيد حسن نصر الله)، و(السيد هاشم صفي الدين)، و(القائد يحيى السنوار الذي استشهد في المعركة داخل غزة)، أو قيادات الصف الثاني، ما هو إلا مظهر انهزامي إفلاسي انتقامي، وحتماً سيبوء بالفشل. أو بشكل غير مباشر، مثل استخدام البيجر، واللاسلكي، الذي راح ضحيتهما استشهاد وإصابة ما يزيد عن (4000) شخص، ما هو إلا مظهر انتقامي إجرامي، وسط دعم أميركي مباشر.
وقد تسابق الجميع في أميركا وأوروبا على التفاخر بصهيونيّتهم، وليس بيهوديّتهم فحسب، وجميعهم رسبوا في الانتخابات في أميركا وكندا، وبريطانيا، وفرنسا وأخيراً ألمانيا، وخرج مِن المشهد مَن تصدّره بعد طوفان الأقصى، ليأتي زمن ترامب لمدة أربع سنوات من الآن وحتى عام 2029م، وسط تحولات كبيرة بلا حدود مؤكدة.
أخلص إلى القول بأنّ أميركا هي التي تدير المشهد، وتدير الكيان، وعصابة الحكم برئاسة النتن/ياهو، وأيضاً المعارضة الوهميّة، ما هم إلا موظفين لدى الرئيس الأميركي الذي تديره الدولة العميقة المتحالفة مع الصهيونية العالمية. إن النتن/ياهو، الذي يبدو على المسرح وكأنه زعيم، وغضنفر، ما هو إلا سكرتير ومعه أعضاء عصابته، في مكتب ملحق بالبيت الأبيض، كأدوات. ويكفي القول للتأكيد على ذلك، أن قرار وقف النار على الجبهة اللبنانية، أصدره (بايدن)، وقرار وقف النار في غزة أصدره (بايدن وترامب معاً)، وقرار تدمير سورية كان قراراً أميركياً والمنفذ صهيوني تركي، وقرارات الاغتيالات أميركية. فهل فهمنا، من نحارب، حتى نعيد رسم استراتيجيتنا العربية، فلم يعد هناك من خيار سوى المقاومة، والمقاومة العسكرية بالأساس، لتحرير فلسطين، والقدس، كاملة من النهر إلى البحر، وعاشت المقاومة، فهي الأمل الذي نتمسك به.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية