المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بين التشريع والمشاركة في صنع القرار الوطني

عباس قبيسي*
نصّت الفقرة (د) من البند الثالث في وثيقة الوفاق الوطني، ضمن باب “الإصلاحات الأخرى”، على ضرورة تحديث وتطوير المؤسسات اللبنانية، ومن ضمنها إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لضمان مشاركة ممثلي القطاعات المختلفة في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة. وقد أقرّ مجلس النواب اللبناني هذا البند في 5 تشرين الثاني 1989، وتمّ لاحقاً نشر القانون رقم 389/95 في 19 كانون الثاني 1995، ثم عُدّل بموجب القانون رقم 288 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 نيسان 2022.
مهام المجلس
يهدف المجلس وفقاً للقانون إلى تعزيز الحوار بين مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويضطلع بالمهام التالية:
إبداء الرأي في جميع الخطط والبرامج ومشاريع القوانين الحكومية المتعلقة بالقطاعات الممثلة في المجلس، مع إلزام الحكومة بأخذ استشارته، وإنْ لم يكن رأيه نهائياً، وتقديم المشورة في جميع مشاريع واقتراحات القوانين ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بالإضافة إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين القطاعات المختلفة، لضمان سياسات متوازنة وشاملة.
السياق التاريخي لإنشاء المجلس
جاء استجابةً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي سادت بعد الحرب، وأبرزها:
1 ـ التراجع الحادّ في معدلات النمو الاقتصادي.
2 ـ تفاقم العجز في الموازنات السنوية للدولة.
3 ـ غياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية لدى الحكومات المتعاقبة، مما أدّى إلى تراجع الآمال في تحقيق إصلاحات جوهرية.
تركيبة المجلس وصلاحياته بعد تعديل القانون
يتألّف المجلس من 80 عضواً يمثلون مختلف القطاعات، من أصحاب الفكر والكفاءة، وأصحاب العمل، والقطاعات الاقتصادية، والمهن الحرة، والعمال، والأساتذة وروابط المعلمين، والحرفيين، ومالكي الأبنية والمستأجرين، والجمعيات التعاونية والاجتماعية، والاتحادات النسائية، والمغتربين، والجمعيات البيئية… ويتميّز المجلس بعدم خضوعه لأيّ توزيع طائفي أو مذهبي، كما أنّ رئاسته ليست محصورة بممثلي الهيئات الاقتصادية او الرأسماليين.
بفضل دوره التمثيلي، يُسهم المجلس في تحقيق توازن بين مصلحة القطاعات المنتجة ومصلحة الدولة، مما يجعله ضرورة مزدوجة تُكمل الدور السياسي للمجلس النيابي، كما أنه يحدّ من المواجهات المباشرة بين أطراف الإنتاج والسلطة السياسية.
جدلية الدور الاستشاري
قبل تعديل القانون، انقسمت الآراء بشأن الطابع الاستشاري للمجلس حيث رأى البعض أنّ هذا الدور يهمّش تأثيره، وطالبوا بمنحه صلاحيات إلزامية تجعله شريكاً فعلياً في صنع القرار الوطني، في المقابل اعتبر آخرون أنّ الطابع الاستشاري يضمن استقلالية المجلس ويحول دون تحميله مسؤولية قرارات غير شعبية، مما يعزز فرص الاعتراف الدستوري بدوره مستقبلاً.
إنّ أهمية المجلس تكمن كمشروع مجتمعي يُعدّ كركيزة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة، إذ يساهم في ضبط السياسات الاقتصادية والاجتماعية بعيداً عن العشوائية والإرتجال وإعادة توزيع الدخل والاستثمارات وفق رؤية متكاملة تراعي مصلحة الفئات المختلفة ويوفر مركز مستقل للدراسات والأبحاث ويخدم الدولة والقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، كما يمكن أن تكون أعماله منطلقاً لدراسات أوسع من قبل مجلس النواب والحكومة والمؤسسات.
إنّ أبرز التحديات مع انتهاء ولاية المجلس الحالي، هي الحاجة الملّحة إلى إقرار المراسيم التطبيقية وتعيين مجلس جديد قادر على القيام بمهامه بفاعلية، (لا يوجد في القانون أيّ نص يرمي إلى التوزيع الطائفي أو المذهبي، كما لا يتضمّن تطويب رئاسته لممثلي أصحاب الرساميل والهيئات الاقتصادية)، ونجاح هذه التجربة مرهون بقدرة الحكومة على تجاوز العراقيل السياسية والطائفية
التي قد تؤخر تشكيله أو تقيّد صلاحياته وضمان عدم التأثير على توازنات السلطة داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية مع ما تعكسه هاتان السلطتان من توازنات هشّة وحسابات ضيقة، وينبغي أن يشكّل المجلس إطاراً للعصف الذهني وصياغة الأفكار الجديدة والعصرية التي قد تساعد الدولة في رسم سياسات أكثر توازناً وإنصافاً، مما يعزز دوره كمؤسسة حيوية في صنع القرار الوطني.