القيصر بوتين يجهض الجيوبوليتك الأميركي … في أوكرانيا
د. وفيق ابراهيم
اضمحلال الخطة الأميركية في سورية، ونقل الصراع إلى أوكرانيا… بلى، إنها هذه فرضية حسنة الإسناد، وللعديد من الأسباب: أولها أن واشنطن لم تستسِغْ موقف روسيا السوري الذي شكّل إلى جانب عوامل أخرى عائقاً صلباً حال دون تسديد ضربات عسكرية إلى سورية، والأسباب الأخرى تتعلق برغبة واشنطن في استكمال حصار روسيا، قبل بدء المواجهة مع الصين. وروسيا محاصرة من الناتو من جهة تركيا وأوروبا الشرقية على نحو كامل. والمتنفّس الوحيد كان بحر «أزوف» الذي يجمع بين روسيا وأوكرانيا ليطلا معاً على البحر الأسود، متصلاً بالمعابر التركية في بحر مرمرة وايجه وصولاً إلى البحر المتوسط. وهو خط كانت الإمبراطورية كاترين تسميه «مفاتيح البيت الروسي» وتحاربت روسيا مع الدولة العثمانية لتحييده قروناً طويلة. إنها المياه الدافئة التي تجعل روسيا دولة إقليمية في الشرق الأوسط.
وهناك أسباب أخرى لا تقل أهمية: لا تريد واشنطن البتة أن تستدرجها موسكو إلى لعبة تعدد القطب في العالم، في مرحلة يجتاز فيها الاقتصاد الأميركي مرحلة صعبة تجسّدت مثلما قال الرئيس الأميركي أوباما بازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء وتراجع عديد الطبقة الوسطى. تكفي الإشارة إلى أن 10 في المئة من الأميركيين أصبحوا يملكون نصف الثروة الوطنية مقابل 33 في المئة سابقاً. ونحو 52 في المئة من الأميركيين يعيشون بأقل من 25 ألف دولار أميركي سنوياً.
هذا لا يعني البتة أن أميركا أصبحت منهارة، فهي لا تزال القوة العظمى الأولى في العالم لكنها قد تتراجع خلف الصين بعد أقل من عقد ـ لذلك ذهب البيت الأبيض ليعيد الأسد الروسي إلى عرينه داخل أراضيه، محاولاً التضييق عليه في امتداده الحيوي الأوكراني وبحر أزوف «رأس المياه الدافئة». وللخبراء الأميركيين أهداف أكثر خبثاً، فبتضييقهم على روسيا يفسحون المدى أمام تدخلات تركيا في آسيا الوسطى حيث تنتشر الإثنيات التركمانية، وداخل القرم حيث يوجد التتار الناطقون بالتركية، من دون أن ننسى الأقليات الإسلامية داخل روسيا نفسها ذات الصلات التاريخية بالدولة العثمانية.
إنها إذن الحرب على روسيا ونقل الجيوبوليتيك الأميركي إلى حدود روسيا، والجيوبوليتك بما هو علم دراسة الدولة كما يجب أن تكون، أي علم الحدود المتحركة وفقاً لما تحتاجه الدول، فإن أوكرانيا هي الدمية التي استعملتها الدبلوماسية الأميركية لفرض الطاعة على القيصر.
لكن روسيا ليست جمهورية موز في أميركا الجنوبية ولا إمارة نفط يحكمها بعير، لذا كان ردها بمستوى الحدث، أي لا مساومة على أوكرانيا ولا على الجيوبوليتك الأميركي فيها. وها هي الدبلوماسية الروسية الهادئة التي تحجب بدماثتها إصراراً عسكرياً روسياً على منع تحويل أوكرانيا إلى هراوة للناتو معادية لموسكو ـ وبدلاً من أن يبتز الغرب روسيا على الأراضي الأوكرانية، هناك من يعتقد أن روسيا قد تبتز الغرب فيها ـ لأنها أفهمت الجميع أن لعبة أوكرانيا خطيرة استراتيجياً، وموسكو مستعدة للذهاب في هذا الموضوع إلى أقصى أخطاره، غير آبهة للتهديدات العسكرية وغير متخوفة من العقوبات الاقتصادية فمساحتها التي تزيد على 16 مليون كيلومتر مربع وصداقتها مع الهند والبرازيل والصين وسورية والعراق وكوبا وفنزويلا وأماكن كثيرة في الأرض تكشف أن الغرب هو الخاسر في لعبة عض الأصابع. وأوروبا خاسرة في لعبة استيراد الغاز من موسكو. ثلاثون في المئة من غاز المانيا روسي، وخمسة وعشرون في المئة من غاز أوروبا روسي أيضاً .
ماذا يريد أوباما إذن؟
أعتقد أن روسيا قد تقبل بالتفاوض معه على سورية فيتخلى لها في المقابل عن أوكرانيا ، لكنه فوجئ بالصلابة الروسية، ورفض المساومة، فوقع في شرّ أعماله بعدما استنهض أوروبا التي لا تعرف كيف تخرج الآن من الموضوع، هي التي وعدت القوميين النازيين في أوكرانيا بحل سياسي بدمجهم بالاتحاد الأوروبي من جهة والناتو من جهة ثانية.
هكذا يكشف القيصر عن قدرات استثنائية تدفع نحو عالم متعدد القطب يرد الاحترام أو بعضاً منه على الأقل إلى العلاقات الدولية، ويوقف الجيوبوليتك الأميركي عند حدود القانون الدولي وكرامة الإنسان.