«حصر إرث» استراتيجي في الخليج
خضر سعاده خرّوبي
«في زمن التحولات الكبرى، تتأثر التحالفات الكبرى أيضاً، وربما تبدأ بتفكك بعض أو جميع عرى الروابط التي نسجتها ضرورات زمن مختلف». هذا ما تعترف به أوساط خليجية مقربة من دوائر الحكم في إشارتها إلى ما آلت إليه العلاقة مع «الحليف القديم»، والمقصود به تحديداً واشنطن التي هي بصدد تفكيك وإعادة تركيب التوازنات في الشرق الأوسط، وفي القلب منه «المجمع الأمني» التقليدي في الخليج، مع العلم أنّ التطورات الجوهرية في العالم العربي في الأعوام الأخيرة أدت إلى تشكل معادلة إقليمية بالغة الصعوبة والتعقيد لم تمثل تحدياً لإيران بقدر ما قدمت فرصاً مؤاتية لتدعيم مصالحها الاستراتيجية.
جرت العادة، منذ تدشين الرئيس الأميركي في بداية عهده رحلة «الألف ميل» نحو اتفاق ديبلوماسي مع إيران يراه مصلحة أميركية تستحق العناء ولو تطلب الأمر مواجهة إعلامية وسياسية مع دائرة حلفائه المقربين التي تضم دولاً عربية إلى جانب «إسرائيل»، أن يجري وصم سياسات الرئيس أوباما من قبل هذه الدائرة بصفات شتى وصلت إلى حدّ تشبيهها بالـ «لا سياسة». من هذا المنطلق، ينظر خليجياً إلى أنّ الولايات المتحدة لم يعد في الإمكان الاعتماد عليها، كحليف عسكري موثوق، مع ما تلمسه دول المنظومة الخليجية من حاجة إلى قوى دولية أخرى كبريطانيا وفرنسا اللتين بدأتا بروح تنافسية عالية حكمت تاريخهما الاستعماري الطويل بالتزاحم على معاودة الانخراط «النشط» في المنطقة، وإن كانتا غير قادرتين على القيام بالدور نفسه الذي ينهض به الأميركيون عسكرياً ولوجستياً هناك.
انعطافة أميركية تقابلها انعطافة فرنسية في الشرق الأوسط تحدثت عنها صحف غربية مؤخراً. قد يصحّ القول في هذا المجال عن التقاء رؤى ومصالح بين باريس وعواصم الخليج في ما يتصل بسياق إقليمي ترتب على صعود رهانات طهران في ملفات المنطقة الساخنة، وعلى وجه الخصوص في الميدان السوري و«جبهة النووي» حيث تمثلت باريس بنجاح، دور «المقاول الممانع» لرؤى واشنطن «التخاذلية»، و«الشريك المميز» في نظر تلك العواصم من أجل كسب عقود هي على درجة عالية من الأهمية بالنسبة إلى الاقتصاد والصناعة في فرنسا.
فقد اعتبرت صحيفة «لوموند» أنّ بسط زعماء دول الخليج، حلفاء واشنطن التقليديين، السجادة الحمراء للرئيس الفرنسي هولاند ليحضر قمة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، كضيف شرف، وهي المرة الأولى من نوعها لرئيس دولة غربية، هو بمثابة رسالة واضحة من القادة الخليجيين قبل عشرة أيام من توجههم إلى الولايات المتحدة الأميركية للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما. أما بخصوص تفسير «خيار فرنسا» السعودي، فقد ندّد الرئيس الإيراني بعقود تسليحية تبرمها عواصم الغرب مع دول شرق أوسطية متسائلاً: «هل يريدون تحقيق الازدهار الصناعي في العالم بهذه الطريقة؟ وهل يريدون توفير فرص العمل في الدول الغربية بهذا الأسلوب، وتوفير العمل للعمال في مصانع صنع الأسلحة على حساب قتل الناس في بغداد ودمشق وصنعاء؟» في حين، هناك من طرح تساؤلات حول الامتداد الزمني المتوقع لـ «شهر العسل» بين الرياض وباريس، وما إذا كان السعوديون يتطلعون إلى أفق بعيد في علاقتهم بالفرنسيين، أم أنّ دورهم يقتصر على أداة للتعبير عن غضب المملكة من ساكن البيت الأبيض.
تقول صحيفة «لو فيغارو»، من جهتها، أنّ الدول الخليجية أصبحت تتوجه إلى ما يعرف بـ «الديبلوماسية السنّية» في الشرق الأوسط التي تنادي بها فرنسا، حيث أنّ باريس تشارك دول الخليج في خشيتها من نفوذ إيران المتزايد في المنطقة والمزعزع للاستقرار في سورية والعراق، ومؤخراً في اليمن، بحسب صحيفة «لوفيغارو» دائماً. وتضيف الصحيفة إنه بعد كثير من المماطلة تمكنت الديبلوماسية الاقتصادية من أن تحصد ثمارها. ونقلت الصحيفة عن أحد المسؤولين الفرنسيين في مجال الصناعة قوله إنه خلال سنة فقط أبرمت باريس أكثر من 13 مليار دولار من العقود العسكرية في منطقة الشرق الأوسط. وبناء على ما قامت به مع السعودية لصالح الجيش اللبناني، فإنّ باريس تسعى إلى القيام بالشيء نفسه مع الإمارات العربية المتحدة التي ستمول صفقة السلاح الفرنسي لصالح تونس.
يشكك كثيرون في مقولة انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط على النحو الذي تأمله شعوبه، ويعتبرون أنّ حرب الثلاثة تريليونات دولار التي خاضها الجيش الأقوى عالمياً في العراق أثبتت أنّ للتدخل المنفرد أثماناً تضاهي الهزيمة. ووفقاً لهؤلاء، وبالتطبيق على ما جرى في ليبيا من قيادة أميركية من الخلف للتدخل العسكري هناك، فإنّ ما واشنطن بصدّده مؤسس على إعادة تفعيل المسار «التعاوني» مع شركائها الدوليين، ومن ضمنهم فرنسا وبريطانيا اللتان كانتا في طليعة المشاركين في ذلك التدخل، وقد حصلتا كذلك على مصالح وتسهيلات بحرية في منطقة الخليج كجزء مما يمكن اعتباره إعادة انتشار أميركي في المنطقة والعالم يقوم على تقاسم عالمي للنفوذ واضح وغير معلن متناسب مع الأعباء التي لا يبدو أنّ الأميركيين ما زالوا قادرين أو راغبين على تحمّلها وحدهم.
مشهدان متزامنان عن تقاسم نفوذ واقتسام خرائط يعاد إنتاجهما إقليمياً مع كلّ القوى الإقليمية تقريباً بسيناريوات متفاوتة. وبينما يراهن البعض على مؤتمر دولي يعيد تشكيل المشهد الإقليمي، كما شهدنا عقب «مؤتمر مدريد»، هناك من يراهن في فرنسا في زمن الاستقطاب الشرق أوسطي متعدّد الأوجه على اعتراف أطرافه على دورها كـ «وسيط» مخول له استكشاف فرص عقد مؤتمر للأمن والتعاون فيه على غرار المؤتمر الذي أدى إلى اتفاقات هلسنكي التي أرست تفاهماً بين أوروبا والمعسكر الاشتراكي عام 1975.