في ذكرى النكبة… إما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل!

بقلم: نصار إبراهيم

عصفور الشمس الفلسطيني… وحنظلة!

عصفور الشمس الفلسطيني

سِرُّ جماله وبهائه ليس في نعومته واستكانته وخضوعه

لا بل في تمرّده وجرأته ومقاومته الأزلية

هو مزيج من الضوء والصرامة والوضوح

يعشق الأزهار نعم

يعانقها ويراقصها نعم

لكن عيناه لا تفارقان الشمس أبداً

فكما يرحل حنظلة الفلسطيني ما بين الأسود والأبيض كي لا يلتبس الموقف

فإن عصفور الشمس الفلسطيني يرحل أيضاً ما بين الزهرة والشمس

ذلك لأنه عصفور الشمس

عاشق الحرية والأعالي الجميلة

وتلك طبيعته

وغير ذلك لن يكون جديراً لا بفلسطين ولا بشمسها!

فلسطين!

فلسطين التي تغفو على رمش العين

هي البحر الذي لا يفارقه قلب البحّار

تعصف الأنواء وتعتكر العينان

لكن القلب لا يفارق مراقصة الأمواج

فيواصل الرقص والمقاومة

تنهض فلسطين، تمتشق قامتها

ترسل عينيها نحو الشمس: هي ذكرى النكبة ما زالت تأتي

وما زلت أنا الفلسطينيّ أقاوم.

تَعُدُّ فلسطين أبناءها مساءً وصباحاً وتودعهم بقلبها وعينيها: هيا يا أبنائي اذهبوا إلى أقداركم

كونوا أبناء أمّكم

مع السلامة!

وأقدار أبناء فلسطين مكتوبة في اللوح المحفوظ

يولدون ليصعدوا

حتى يكون يوم تُحَرِّر فيه ضفائرها الأزلية كالزيتون وتُعمِّد شعرها البهيّ في مياه المتوسط

تسرِّحه بعطر اللوز والليمون

يومئذٍ ستطلق أغانيها الحرّة نحو الذين صعدوا وهم ينشدون بِاسمها

سيأتي ذلك اليوم

قد يتأخر

لكنه سيأتي ما دام على هذه الأرض رجل وامرأة كنعانيان يمارسان العشق للأرض والأطفال والبرتقال والأيام التي لم تأت بعد!

9 نيسان 1948 ذكرى مجزرة دير ياسين

كم يبدو الصباح هادئاً هنا في دير ياسين

وكم يبدو المكان هادئاً

صمت عميق يغمر المكان

صمت حزين يصل إلى أعماق الروح

صمت الموت والفقد والغدر والذكريات

صمت أطفال ونساء ورجال

استيقظوا فجراً وفي عيونهم ألف سؤال

ولم يمتلكوا الوقت لانتظار الأجوبة

مضوا وفي عيونهم عتب وغضب وخوف

سقطوا فجراً ومع الضحى وظهراً

لم يترك الطفل ثوب أمه وصدرها فمضى معها وفي عينيه عتب على السماء والأرض

سرب عصافير يحطّ قريباً من أشجار الصبّار المنسيّة

أعشاب وحشائش وأشواك

بقايا أشجار اللوز والرمّان والتين

تواصل نموّها وحيدة

معالم جدران تطلّ من وحشة المكان وصمته الحزين

بقايا دروب ضاعت معالمها

صرير الجنادب وهمسات الرياح تدور في الفضاء

صدى أصوات قادمة من على مسافة 66 سنة

أطفال، ودخان مواقد يتصاعد ويمضي بعيداً في السماء

وعيون تحاور كأس شاي مع ميرمية

نداء على جار يعبر الدرب مساءً

تمر امرأة تلقي تحية المساء وتمضي صعوداً مغمورة برائحة الخبز الطازج

صهيل فرس

وفراشات تعانق ما تيسّر من أزهار تنمو بلا نظام

دير ياسين… بقايا بيوت وشبابيك وأبواب ودروب صامتة

ترنو بحنين إلى الأفق البعيد

ياااه! كم يبدو المكان هادئاً هنا في دير ياسين!

همس الزيتون!

سألت شجرة الزيتون المعمّرة صديقتها: أتذكرين يوم مولدك؟

لا… لا أذكر سوى أنّني هنا

ثمّ أشارت بغصنها المضيء إلى السفوح المقمرة.

وهمست: وأذكر طيف طفل كنعانيّ كان يركض هناك كالسراب

واصلت أشجار الزيتون همسها تحت ضوء القمر

فيما وقفتُ ملتصقاً بدفئها وأنا أحاول أن أتذكر ملامح ذلك الطفل الكنعانيّ الأسمر الذي كان يركض يوماً على السفوح المقمرة

أين ذلك الطفل يا ترى؟

أم لا يزال طفلاً يركض باحثاً عن ملامح وطن مزروع بالزيتون؟

في شهر اللوز… اليرموك ويافا!

نهض البحّار

أيقظه البحر على هدهدة الأمواج

ورائحة القهوة

جذلاً كان

فالريح مواتية

أرسل نورسه ليجوب الأفق الأزرق

هل اليابسة في الأفق؟

ستكون… قال النورس

غنّى البحّارة فرحاً

قال البحار: أرسل مجذافك في أعماق الموج

يأتي بالماء إلينا

لنمضي في هذا الأزرق

نحو المرجان، والأمل المزروع على الشاطئ ينتظر

نظر البحارة نحو الأفق الداخن

قالوا: ها قد عاد الهدهد

إذن، لتزهر في القلب الصادق سوسنة مع خيط الضوء الأول… همس البحار فيفيض البحر بالفرح الضاحك فنبتهج لبهجته.

ابتسم البحار… وعانق أبعاد المستقبل.

قال البحار: يا ريح البحر ها نحن نبحر في المدى

مُرّ على وجه وطني وشعر حبيبتي وعيون أطفالي

ولكن… حذار ليكن ذاك برفق… وإلا

وبشرف إله البحر «بوسيدون» سنمنعك من المرور!

سار البحار على سطح سفينته

ترك الدفة والأشرعة لصهيل الريح

قال البحار: سنجوب البحر ومحيطات الأرض والأنهار

نبحث عن وطن في فكرة

ونبحث عن أمل في وطن

لسنا قراصنة أوطان أو حُب أو قمح

بل نبحث عن فيض الخير في ذاكرة عامرة وأحلام قادمة

لا ننسى وطناً مغتصباً ضاع ما بين اللؤم والبؤس والعجز وألعاب الدول الكبرى وتفاهات الأنظمة الصغرى.

ألقى البحّارة المرساة قرب الشاطئ فلامست الأرض برفق

همس البحار: هذي يافا.

مواقد يافا دافئة

عامرة بالنار

ضجيج الأطفال وغناء البحر

رائحة البنّ

في يافا أبواب لا تُغلِق أبداً دفّتها… هذا ما قاله الشيخ اليافاوي الطاعن في العمر

قرب الشاطئ جلس

غامت عيناه فسقط الدمع في ماء البحر المالح

ليغسل أسماك الوطن المنفية في أعماق اليمّ وأعماق الليل وأعماق القلب.

ها يافا في مرمى العين

تنام على الشاطئ مذ خلقت

تنتظر من يحمل غصن اللوز أخضر

من أين يعود الأهل كرفوف الحمام وأسراب السمك؟

من البر… من البحر… أم من بين الغيوم

من أين؟ يافا ما زالت تحلم بصبيةٍ تخرج من عمق الموج بسلال البرتقال

بأمّ تُرضع طفلاً

وتشعل ناراً لتحضّر كأس شاي بالميرمية

لجارٍ يلقي تحية المساء

تحضن يده كوب الشاي وتلاحق عيناه النجم الأول الذي يشرق فوق البحر

قال الشيخ: يافا ـ كانت ـ عامرة بالحبّ والبحر والناس

أما الآن فيافا تنهشها الغربة

واليافاويون انتشروا في الدنيا

يخربش الأطفال البرتقال على جدران المدرسة وأرصفة الشارع

ومفتاح العودة في صدر البيت

في صدر الخيمة والمكتب والروح

تمضي السنون

واليافاوي يزرع أشتال الليمون في وعي الطفل

يزرعها مع صرخته الأولى

فترافقه كآية قرآن أو أيقونة مريم

«وقل أعوذ بربّ الفلق… من شرّ ما خلق… ومن شر حاسد إذا حسد…»!

هذي ليست أحلاماً

فالقمر قد اكتمل

والنفي قد اكتمل

والقتل قد اكتمل

والوعي قد اكتمل

ويافا ما زالت تتهيّأ

تستمع لأمواج البحر وصهيل الخيل الآتي من عمق الصحراء

ها مشروع النفي قد وصل نهايته

والكذبة لم تثبت صحّتها

لم ينس الأطفال

وفي الزنزانة يزرع معتقل أمنية

يسقيها بالحزن والأمل

وبالشهداء تغصّ الذاكرة وأرصفة الشارع

براكين الأرض تمور… تفور… تنزاح صفائحها

ليوم ترسل فيه الغضب الكامن

فيبتلع البحر الكذبة

وتبتلع الأرض اللحظة العابرة

والفكرة العابرة

والثقافة العابرة

والوجوه العابرة..!

في يوم قادم كالفجر ستشرق يافا

ستعلو البسمة عينيها

هذا وعد الله ووعد رجل وامرأة حفرا نفقاً في الليل ليعودا فجراً

يغنّيان ويقاومان

يحفران ويقاومان

قالا: سننجب أطفالاً

سيحمل كلّ منهم شتلة برتقال وبندقية

كتاباً وزهرة ياسمين

سنعلّمهم قصائد الحبّ والوضوح والشرف

سيعودون إلى يافا مع شهر اللوز

فيافا تعرف ما في باطن هذي الأرض

ولهذا يافا تبتسم

لشهر اللوز

وصوت الموج

وغناء البحّارة

واليرموك سيبقى جسراً للعودة..!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى