أيار شهر النكبة والانتصارات أيضاً أوكرانيا: اختبار لغلبة بوتين على محاولات الاستدراج والتطويق الأميركية
تعدّدت مواضيع اهتمامات مراكز الفكر والأبحاث الأميركية، مع الإشارة الى أن أولوية الحوادث الأوكرانية لا تزال في صدارتها.
يعرض قسم التحليل الأزمة الأوكرانية من عدة جوانب، أحدها وضعها في سياق تجديد أجواء الحرب الباردة بين القطبين العالميين كما يرغب أقطاب التشدد والمحافظة في الجانب الأميركي. ويسلط الضوء على استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتفاعله بدراية وروية مع الحوادث والسعي إلى تفادي الاقدام على خطوات غير محسوبة، ما أكسبه تنامي شعبيته في الداخل الروسي وتميّزه عن تهوّر أطراف محددة في حلف الناتو وعدم الانجرار الى فخ التدخل العسكري الواسع المنصوب له، بل أضحى جلياً أنه قاب قوسين أو أدنى «من الفوز المتدرج بالنقاط» على خصومه الدوليين.
ملخص دراسات مراكز الأبحاث ونشاطاتها
أوكرانيا
تناول صندوق «جيرمان مارشال» تداعيات الأزمة الأوكرانية على تركيا، معرباً عن اعتقاده أنها «مقبلة على حالة جدل حادة لتحديد موقعها الاستراتيجي ودورها في الترتيبات الأمنية العابرة للمحيط»، مشيراً الى أن الاستراتيجية التركية المعهودة «أعرضت ماضياً عن مواجهة التحديات الجيوسياسية وفضلت النظر الى مركزية البلاد في الشؤون الإقليمية. وأثبتت الحوادث الأوكرانية أن نافذة التوجه المذكور شارفت على الإغلاق سريعاً».
ناشدت مؤسسة «هاريتاج» الإدارة الأميركية «تعزيز العلاقات العسكرية المشتركة مع جمهورية جورجيا،» لافتة نظرها الى خطورة اعتمادها على تعاون روسيا في عملية إجلاء القوات الأميركية من أفغانستان، إذ «تجد موسكو نفسها غير ملزمة بتوفير طرق المرور السالكة» في أعقاب الأزمة الأوكرانية، بينما «عرضت جورجيا استخدام أراضيها وبنيتها التحتية وقدراتها اللوجستية لمرور قوات حلف الناتو ومعداتها، وشرعت في تحديث مطاراتها الرئيسة ومرافق موانئها، وبناء خط للسكك الحديد ينتهي العمل به العام الجاري ويربط أذربيجان بتركيا عبر الأراضي الجورجية».
فلسطين المحتلة
استعرض معهد المشروع الأميركي ردود أفعال إيران على أداء منظومة القبة الحديدية معتبراً أن «إيران تدرك التحديات التقنية التي تمثلها المنظومة أمام قدرتها على شن هجمات صاروخية، وأن قادتها العسكريين يغامرون بمثالب وعيوب القبة، وقد يتملّكهم شعور خاطئ بالثقة وربما توفير الإغراء لشن ضربة أولى إرضاء لخيارات المتشددين الإيرانيين».
أما مجلس السياسة الخارجية الأميركية فوضع نصب عينيه المفاوضات النووية الجارية، معرباً عن اعتقاده أن «إيران تناور لكسب مزيد من الوقت، فتخفيف الضغوط الغربية يستدعي انخراط الغرب في مزيد من جولات المفاوضات»، موضحاً أن «نواة المصلحة الإيرانية في كسب الوقت هي تعزيز الوضع الاقتصادي، وما تغير هو قناعة القادة الإيرانيين بأن أفضل السبل لتحقيق ذلك هو عبر الكشف عن المعلومات بدل إخفائها».
حذر معهد المشروع الأميركي من «تنامي اليد الضاربة لسلاح البحرية الإيرانية» نظراً إلى رسو عدد من السفن الإيرانية في ميناء جيبوتي «خاصة أن الرسو طال أراضي شريك أساسي للولايات المتحدة، ما قد لا يثير شهوة التغطية الإعلامية لو عبرت السفن قناة السويس أو جدلية الزعم بأن إيران تنشر سفنها في مياه قريبة من الساحل الشرقي للولايات المتحدة». وكرس المعهد خشية المسؤولين الأميركيين من تفسير الجانب الإيراني أن رسو السفن في ميناء جيبوتي «يعد تحدياً لهيبة الولايات المتحدة، فضلاً عن حوادثه، خرقاً في عزلة إيران».
أفغانستان
حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من «تنامي موجة الفساد» في الحكومة الأفغانية وارتفاع معدلات الرشوة «من 158 دولاراً الى 214 دولاراً للحادثة الواحدة ، بزيادة بلغت 29 ، إذ لوحظ أن قطاع التربية هو أشد القطاعات الحكومية تعرضاً للفساد».
«الإخوان المسلمون»
زعم معهد كارنيغي «أن الولايات المتحدة لا تدعم تنظيم الإخوان بالضرورة، رغم توافر أرضية ثابتة لانتقاد وجهة السياسة الأميركية حيال مصر التي حافظت على اتزانها بالتعاون مع أي هيئة أو شخصية تدير الشؤون المصرية»، مستدركاً بالقول «إن حنق المصريين على السياسة الأميركية له ما يبرره، بيد أن عيوبها لم تتضمن محاباة متأصلة لواشنطن نحو الإسلاميين أو رغبتها في رؤية الإخوان المسلمين يتسلّمون زمام الأمور في مصر».
التحليل
يعتبر الديبلوماسي والمفكر الاستراتيجي الأميركي جورج كينان الأب الروحي لسياسة «الاحتواء» التي انتهجتها الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. واشتهر بالقول إن «الطبيعة الذاتية للنظم الديموقراطية تعوق قدرتها على بلورة استراتيجية واقعية»، مطالباً بإجراء مراجعة دائمة للاستراتيجية الكونية المعتمدة وتعزيز القدرات العسكرية باستمرار. كما طالب بجرأة في كتاب نشره عام 1993، The Cragged Hill بتقسيم الولايات المتحدة «12 جمهورية صغرى لتيسير إدارتها».
اتساقاً مع النزعة الفكرية الأميركية المتأصلة في تحقيق ضالة التوسع والهيمنة المنشودة، انتقل مركز ثقل استراتيجيتها العالمية، بعد إعاقة تحقيق أهدافها في سورية، مباشرة الى الحديقة الخلفية لروسيا، إذ هُيّئت «الثورة البرتقالية» منذ أفول الاتحاد السوفياتي لإطلاقها عند نضوج ظروف الصراع مع روسيا. ومشت الإدارة حائرة بعد تصعيد لهجة خطابها السياسي والتهديد بإجراءات المقاطعة الاقتصادية ضد روسيا التي لم تنكسر شوكتها وصعدت بالمقابل من إجراءاتها واستعدادها للمواجهة.
فوجئت الإدارة الأميركية بحالة الانقسام الداخلي حول الوسيلة الأنجع اتباعها في مواجهة روسيا، نظراً إلى تشبع الساسة لثقافة المواجهة منذ ما ينوف على نصف قرن من الزمن، جسدتها الخلافات الحزبية في الكونغرس بين الجمهوريين المطالبين بالمضي في فرض نظام عقوبات متشددة، ونظرائهم في الحزب الديموقراطي الذين تباينت آراءهم حول الأمر. السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام شدّد على ضرورة «مقاطعة قطاع الطاقة الروسي، وقطاع المصارف المالية في روسيا، والعمل على الإطاحة بالاقتصاد الروسي. لذلك العمل على توريد السلاح للشعب الأوكراني وتمكينه من الدفاع عن نفسه». لا ينفك الثنائي المتشدد غراهام-ماكين عن خضّ الإدارة الأميركية على الانخراط مباشرة في الصراع الدائر في أوكرانيا. وهرعت صحيفة «وول ستريت جورنال» الى الاصطفاف إلى جانب طروحات الثنائي بالقول إن الأسلحة المقصودة لأوكرانيا هي «دفاعية لكنها فتاكة تشمل ألغاماً ضد الدروع والمدافع، وتوفير مزيد من العتاد الذي من شأنه رفع كلفة وخطورة التدخل» الروسي.
مستشار الأمن القومي الأسبق، زبغنيو بريجينسكي، أوضح في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» التلفزيونية أن الولايات المتحدة والدول الغربية الحليف خلقت ظروفاً مؤاتية لضغط الرأي العام على قادتها «لتوفير معونات عاجلة لأوكرانيا، ربما ليس عبر تدخل عسكري مباشر، بل بمعدات تسليحية، وأضيف بصراحة أنه لا ينبغي لنا الإخفاق أو التردد في تحقيق ذلك»، مستدركاً أنه ينبغي تفادي أي تصرفات أو ردود أفعال «من شأنها الحط من مكانة الروس بل التقدم بعرض صفقة تتيح لأوكرانيا فرصة التحالف بحرية مع الاتحاد الأوروبي والإبقاء على علاقة طبيعية مع روسيا في الوقت نفسه، اي وضع مثيل لما هي الحال عليه مع فنلندا» 13 نيسان 2014 .
رئيس لجنة العلاقات الخارجية عن الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، بوب مننديز، أوضح حجم الانقسام بين أعضاء لجنته على خلفية تقويم الموقف حول روسيا، بخلاف انسجام المواقف بين مننديز ونظيره الجمهوري بوب كوركر في اللجنة المذكورة لدى مصادقتهما معاً على قرار يجيز التدخل العسكري الأميركي في سورية، قبيل اندلاع الأزمة الأوكرانية.
يشار أيضاً في هذا الصدد إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، دوايت أيزنهاور، أحجم عن تسليح «المعارضين في المجر» إبان حوادث عام 1956 كما أحجم الرئيس ليندون جونسون عن تسليح المحتجين في «ربيع براغ» عام 1968 خشية الانجرار الى مواجهة أميركية مباشرة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك.
وسارعت إدارة الرئيس أوباما الى حشد قواها للترويج لسياسة «الانخراط الأميركي» في الشؤون الدولية، مستبقة دعوات المطالبة بالانسحاب من الالتزامات الخارجية والالتفات إلى ترميم الأوضاع الداخلية. في هذا السياق، برز وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، محاضراً مطلع الأسبوع الجاري أمام حشد نخبوي «لمجلس شيكاغو للعلاقات الدولية» محذراً من خطورة دعوات الانكفاء التي «ستترك تداعيات قاسية من شأنها ألحاق الضرر بالأميركيين أنفسهم». وسعى هيغل إلى التوفيق بين مهمة تعزيز القوة العسكرية الأميركية وهيبتها غير الكافية للجمع بين «الدفاع عن الأمن القومي الأميركي والنظام العالمي» في آن واحد.
رافق خفض موازنة الدفاع الأميركية تنامي مطالبتها لحلفائها في حلف الناتو بضرورة زيادة نسبة مساهماتهم في الموازنة العسكرية للحلف، بيد أن لدى الأعضاء أولويات أخرى في ظل تردي أوضاع بلادهم الاقتصادية. يشار في هذا الصدد إلى أنه منذ عهد وزير الدفاع السابق، روبرت غيتس، درجت البنتاغون على الترداد أمام الحلفاء الأوروبيين عن «ضيق ذرع أعضاء الكونغرس لاضطرارهم إلى تعويض حصصهم الدفاعية في الحلف ضماناً للأمن الأوروبي»، وأوضح عضو الكونغرس الجمهوري مايك تيرنر حجم الأزمة أنه «يتعين على الأوروبيين الكف عن تحويل كلفة أمنهم الدفاعي الى الولايات المتحدة»، مستدركاً أن متطلبات الأمن القومي الأميركي تستدعي توفير التدابير المطلوبة «لضمان ردع عدوان روسي».
مجلة «الإيكونوميست» الرصينة عنونت غلاف عددها الأسبوع الجاري متسائلة: «ماذا تنوي أميركا القتال لأجله؟» للدلالة على الإخفاقات المتتالية للاستراتيجية الأميركية في «شبه جزيرة القرم وأوكرانيا وسورية» كما أوضحت. وأوجز المعلق السياسي المقرب من دوائر صنع القرار، فريد زكريا، مأزق الرئيس أوباما في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في 9 ايار، قائلاً: «مشكلة أوباما أنه يدلي بتصريحات مهمة بشأن قضايا لا ينوي استخدام القوة الأمريكية فيها، وتعتبر سورية والربيع العربي أوضح مثالين على ذلك، فقد أصبح الخطاب السياسي بديلاً من العمل، وفي القضايا التي انخرطت فيها الولايات المتحدة – مثل أوكرانيا وآسيا – كانت تصريحاته صامتة بغرابة. كان الرئيس يتحدث أمام القادة الأوروبيين حول أوكرانيا عن التدابير التي لن يتخذها بدلاً من تلك التي سينفذها فعلاً».
وما لبث الساسة الأميركيون أن تنفسوا الصعداء عقب إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن نيته سحب القوات الروسية المرابطة قرب الحدود مع اوكرانيا، واستمر الجدال الداخلي حول مغزى الخطوة إن كانت كافية «للتساوق مع مطلب الولايات المتحدة بنزع فتيل الأزمة» أو»على الأقل إعطاء الدليل على أن روسيا تسعى إلى ذلك» كما جاهد معهد ستراتفور الاستخباري في سرديته لإيجاد بارقة أمل للخروج من الأزمة. وأرفق إعلانه بمناشدة قادة «جمهورية دونيتسك الشعبية» تأجيل موعد استفتائهم لقياس دعم المواطنين للاستقلال عن الحكومة المركزية في كييف. رد قادة «الجمهورية» بإعلان عزمهم المضي في إجراء الاستفتاء في موعده يوم الأحد 11 ايار الجاري «لخشيتهم من فقدان صدقيتهم أمام الجمهور إن استجابوا لطلب الرئيس بوتين».
مجلة «تايم» أعربت عن «ضيق ذرع الاستراتيجيين الغربيين من رزانة الرئيس الروسي الواثق من نفسه ودهائه، وعكفوا على مراجعة شاملة لفرضياتهم السابقة حول الاستقراء والتنبؤ بالخطوات المستقبلية التي قد يقدم عليها وكانت على نقيض استنتاجاتهم». وبناء على ما تقدم، لا تزال مخاوف وهواجس عقلية الحرب الباردة مسيطرة على صناع القرار، سياسيين وعسكريين، وقد ينجم عنها التوصل الى تقديرات خاطئة وربما غير مسؤولة من شأنها أن تقود إلى اتخاذ قرارات سياسية قاصرة.
لعلّ النظرة الأدق والأكثر واقعية هي التوجه إلى رؤية القضايا الماثلة من منظار الطرف الذي يتحكم في زمام المبادرة، أي روسيا والرئيس بوتين.
يتبع غداً جزء ثانٍ