اتفاق 17 أيار… ظروفه وفشل محاولات إنتاجه 1
حسن حردان
بعد يومين، تحل ذكرى اتفاق الذل والإذعان، إتفاق 17 أيار، الذي وقع بين السلطة اللبنانية عام 1983، أيام حكم الرئيس أمين الجميل، والعدو الصهيوني الذي كان جيشه يحتل لبنان عامذاك.
الحديث عن الاتفاق والظروف التي أحاطت بولادته وما تضمنه من بنود سياسية وأمنية واقتصادية يكتسب أهمية هذه الأيام انطلاقاً من المحاولات الدؤوبة لإعادة إنتاج مثل هذا الاتفاق، للتخلص من المقاومة التي هزمت الجيش الصهيوني الذي قيل يوماً إنه لا يقهر، وأسقطت المقاومة اتفاق 17 أيار ودشنت عصر قوة لبنان بمقاومته وتلاحمها مع الشعب والجيش واضعة نهاية لمقولة «قوة لبنان في ضعفه» التي كانت تجعل منه فريسة سهلة لاعتداءات وأطماع العدو الصهيوني.
سقوط محاولات إعادة إنتاجه
يحلم قادة العدو «الإسرائيلي» بإعادة لبنان إلى كنف الوصاية والهيمنة الأميركية الصهيونية ليبقى ساحة يعبثون من خلالها بأمن الأنظمة العربية التحررية، ولهذا عملوا وما زالوا يعملون للقضاء على المقاومة التي شكلت نموذجاً في مقارعة جيش الاحتلال «الإسرائيلي» وإلحاق الهزيمة المذلة به، وجاء القرار1559 «الإسرائيلي» الصنع كمحاولة أولى لإحداث انقلاب في لبنان ضد المقاومة ولإعادته إلى فلك الوصاية الأميركية الصهيونية، ولدى فشل الإنقلاب بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 شنّ العدو محاولة ثانية، حربه العدوانية على لبنان سنة 2006 بدعم غربي وغطاء من بعض الأنظمة العربية، لسحق المقاومة وضرب المثال الذي قدمته في مقاومة الاحتلال وإمكان هزيمته وتحرير فلسطين والأراضي العربية. لكن فشل هذه الحرب وانتصار المقاومة التاريخي والاستراتيجي ضاعف القلق الأميركي الصهيوني، ودفع واشنطن و»تل أبيب» إلى التحضير لمحاولة ثالثة تمثلت في تنظيم الحرب الإرهابية على سورية لإسقاط نظامها المقاوم الذي كان له دور مهمّ في تمكين المقاومة من الصمود وتحقيق نصر تموز، ولهذا الغرض حشدت جيوش الإرهابيين من أنحاء العالم وقدمت إليهم مختلف إشكال الدعم العسكري والمالي والتسهيلات من دول جوار سورية، وشُكل تحالف دولي إقليمي عربي وفر الدعم السياسي لهؤلاء الإرهابيين، ومع ذلك فإن النتائج باتت تؤشر إلى فشل هذه الحرب واقتراب سورية من تحقيق النصر ضد التحالف العالمي الإرهابي.
إذا كان أمراً طبيعياً أن يعمل أعداؤنا على محاولة إنتاج اتفاق 17 أيار جديد، بلوغاً إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال إسقاط سورية، ظهير المقاومة، كي يسهل بعد ذلك القضاء على المقاومة، فمن غير الطبيعي أن تنخرط قوى لبنانية وعربية في هذه الحرب ضد المقاومة وسورية والسعي إلى إعادة إنتاج ظروف مماثلة لتلك الظروف التي أنتجت اتفاق 17 أيار.
ظروف ولادة 17 أيار
بعض الأصوات الداخلية التي وقفت مع الاتفاق ودافعت عنه وصوتت له هي نفسها لا تزال تنبري للدفاع عنه وتصويره على أنه يحقق ما سموه جلاء القوات «الإسرائيلية» عن لبنان، بينما تشكل جميع بنود الاتفاق انتقاصاً من سيادة لبنان واستقلاله وتعطي «إسرائيل» مكاسب أمنية وسياسية واقتصادية كانت في طليعة الأهداف التي سعت إليها من اجتياح لبنان سنة 1982 إلى جانب ضرب المقاومة الفلسطينية وتنصيب نظام موالٍ لها في بيروت، والعمل على محاصرة سورية تمهيداً إلى محاولة فرض الاستسلام عليها، بعدما فشلت جميع محاولات الترغيب والترهيب والحصار وتقويض استقرارها الداخلي بثنيها عن التشبث بمواقفها الوطنية والقومية والدفاع عنها.
لذلك كانت ضرورية العودة إلى تعريف الرأي العام، خاصة الأجيال التي لم تعاصر تلك المرحلة التي ولد في كنفها هذا الاتفاق، واستطراداً طبيعته وأهدافه الحقيقية. علماً أن الذين يدعون الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله اليوم، كان بعضهم في طليعة من وقّع وصدّق وصوّت على الاتفاق، والبعض الآخر لم يطلق طلقة واحدة ضد الاحتلال بل استقبل قادة العدو وسهل لهم دخولهم، ولم يتوان عن لعب دور أمني في حماية الاحتلال من عمليات المقاومة.
في هذه الحلقة نركز على الظروف، فهذا الاتفاق الذي صدّق عليه مجلس النواب اللبناني بتاريخ 13/6/1983 ولم يرفضه من النواب، باستثناء النائبين زاهر الخطيب ونجاح واكيم، تمّ التوصل إليه بعد مفاوضات طويلة بين الجانبين «الإسرائيلي» واللبناني، وبرعاية أميركية مباشرة، في ظل ظروف وتطورات مهدت للاتفاق.
ما هي تلك الظروف؟
1 ــ احتلال قوات الجيش «الإسرائيلي» لمعظم الأراضي اللبنانية، بما فيها العاصمة بيروت، وسيطرته على سائر المرافق الحيوية في البلاد، بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بموجب اتفاق رعته الولايات المتحدة الأميركية، وبلغ عدد القوات «الإسرائيلية» التي اجتاحت لبنان 120 ألف جندي.
2 ــ إجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية في ظل الاحتلال وإشرافه وتدخله المباشر بدعم ترشيح بشير الجميل الذي شهد لقاءه الأول مع رئيس وزراء العدو في ذلك الحين مناحيم بيغن، خلافاً، بسبب الإلحاح «الإسرائيلي» على الإسراع في توقيع اتفاق صلح مع «إسرائيل» إذ طلب بشير الجميل التريث في ذلك إلى حين ترتيب الوضع اللبناني، وكان لافتاً أن مقتل بشير الجميل حصل عقب هذا اللقاء، ما دفع جريدة «العمل» الناطقة باسم حزب الكتائب في ذلك الحين إلى القول: «إن الجميل قتل على خط التماس الإقليمي».
فور ذلك سارع البرلمان، بضغط من «إسرائيل»، إلى التعجيل في عملية انتخاب أمين الجميل، شقيق بشير الجميل، الذي كان واقفاً على تلبية الرغبة «الإسرائيلية» الملحة لتوقيع اتفاق صلح وانطلقت المفاوضات بين فندق ليبانون بيتش في خلدة قرب بيروت، ومستوطنة «كريات شمونة» في فلسطين المحتلة قرب الحدود مع لبنان.
3 ــ قيام نظام أمين الجميل بالتنسيق مع الاحتلال بحملة قمع منظمة للقوى الوطنية واعتقالات واسعة للقيادات والعناصر الوطنية، وحصل تواطؤ مع جيش الاحتلال في ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا التي استهدفت بث الرعب في صفوف المواطنين وخلق مناخات من الاستسلام ومحاولة قتل إرادة المقاومة، والانتقام في الوقت ذاته.
4 ــ ممارسة عملية ترهيب وترغيب مع النواب، لدفعهم إلى الموافقة على الاتفاق أو الامتناع عن معارضته، وحصل تهديد مباشر للنواب الذين أعلنوا رفضهم للاتفاق إذا ذهبوا إلى الجلسة العامة في 17 أيار.
هذه الظروف الذي نشأ فيها اتفاق 17 أيار المشؤوم ووقع عليه البرلمان اللبناني، تشير إلى أنه فُرض بالإكراه وقسراً في ظل الاحتلال والسيطرة «الإسرائيلية» الكاملة والضغط المباشر، وكان نظام أمين الجميل من أشد المتحمسين له.
يؤكد القانون الدولي في هذا المجال أن الاتفاقات التي تبرم في ظل الاحتلال باطلة بطلاناً مطلقاً أو قابلة للإبطال من قبل الدولة المقهورة، علماً أن لبنان كان عهدذاك مسلوب الحرية ومنتقص الإرادة، ولذلك فإن مثل هذا الاتفاق سمي باتفاق الإكراه والإذعان والاستسلام لشروط الاحتلال «الإسرائيلي».
إذاً كانت هذه الظروف التي جرى في ظلها إنضاج وتوقيع الاتفاق، فإن فكرة توقيع اتفاق صلح مع لبنان نشأت بعدما رأت «إسرائيل» أن اتفاقيات كامب ديفيد لم تلب أهدافها لناحية تحقيق التطبيع الاقتصادي، وتحويل مصر إلى جسر عبور للمنطقة العربية، بل رأت أن الفرصة مواتية لبلوغ ذلك عبر لبنان الذي اختير فريسة وحلقة ثانية بعد مصر لعدة عوامل ومبررات أبرزها:
العامل الأول: إن لبنان يشكل المنافس الاقتصادي الأول لـ«إسرائيل» والعقبة الأهم أمام أطماعها في تحقيق الهيمنة والسيطرة على الدول العربية، ولذلك أرادت استغلال روابط لبنان مع العالم العربي لتحقيق ذلك.
العامل الثاني: حالة التمزّق التي كان يعيشها لبنان نتيجة الحرب الأهلية، والتي اتخذت منحى تآكلياً فيما انهارت مؤسسات الدولة وتضرر الاقتصاد اللبناني كثيراً.
العامل الثالث: التذرع بأمن «إسرائيل» لتبرير اجتياح لبنان واحتلاله إن بحجة وجود المقاومة الفلسطينية، أو بحجة الدفاع عن المسيحيين.
العامل الرابع: توافر مناخ شجع «إسرائيل» على الاجتياح ويتمثل ببعض القوى المتعاملة والمتعاونة معها ولم تكن تخفي تأييدها لإقدام «إسرائيل» على غزو لبنان كي تتمكن، عبر الاستقواء به وبواسطته، من السيطرة على الحكم في البلاد.
إنها الظروف التي أنتجت توقيع اتفاق 17 أيار المشؤوم ونشوء الفكرة «إسرائيلياً» لاختيار لبنان كثاني بلد عربي بعد مصر لتوقيع اتفاق صلح مع «إسرائيل».في سياق المخطط «الإسرائيلي» الأميركي الهادف إلى تشريع الدولة الصهيونية المحتلة لفلسطين وجعلها دولة طبيعية في المنطقة تملك جميع مقومات التفوق والهيمنة فيه.