طِفلٌ من حَلَب سَاهَمَ في قَتلِهِ كُلّ العَرَب…
نَغَم نصر
تَوَقّف هُنيهة انصِت لِقِصّتِي اسمَع غَصَّتِي اصغِ إِليَّ… وَجَعِي يا سيّدي قَد بَاتَ كَبير
لَستُ في رَيعانِ الشّبابِ وَلا رضيعٌ…. أَنا مُجرّد طفلٍ صغيِر
والدي ليسَ وزيرٌ ولا أَمير
مُجرّد فلاّح فَقير
يَكدح طوالَ اليومِ في أرضٍ… صاحبُها تاجرٌ كبير
يعودُ آخرَ اليومِ إلى البَيتِ… يُنهي عَمله في هَزِيعٍ مِنَ الّليلِ أَخِير
تَجِدُهُ مُبتسما فَاغِرَ الفَاهِ رُغمَ أَلَمٍ يُمَزِّقُ مَفَاصِلَهُ فَحَملُ المِعوَلِ طُولَ النَّهَارِ عَمَلٌ مُضنٍ ثَقِيل يرجِعُ للبيتِ في حَالٍ للشَّفَقَةِ مُثِير
يَتَناوَلُ بِضع لُقيماتٍ… يَكسِرهُ النُعاسُ…. ها قَد غَطّ في سُباتِه …قد عَلا صَوتُ الشّخير
أُمّي تعملُ في مشغلٍ للخياطةِ ، تُطرّزُ الملابِسَ طيلةَ الشّهر لِتَحِيكَ ثوباً أو مِعطفاً مِن فروٍ تتداخَلَ في ثناياه خُيوطٌ من حَرِير
تَبيعُهُ لسيدةِ أَعمالٍ تَرتديهِ ليلة ثمّ تَرميهِ في دُولابها إلى جَانِبِ الآلاف من الفساتينِ والتّنانير
نَأكلُ بِثمنِ الثّوب طِيلةَ الشّهرِ… «كَفا المَبلغُ أَمْ لم يَكفِنَا»… فَهَذا واقعٌ مفروضٌ عَلينا… مَرير
تَعودُ أُمّي مساءً من عَمَلٍ إلى عَمَل!… تُكمِلُ حِياكَةَ المعطَف… تُعلّمُنا… وتَصنَعُ لنا الفَطير
تَجِدُهَا أَمَامَ النّاسِ وَاثِقَة بِنَفسِها… طيّبة الخُلق… شريفة نَظيفة… تظنُهَا غنيّةً من شِدّةِ التّعَفُّفِ القَنَاعةُ ..التّسليمُ والرّضا قَولُها الشّهير
فطورُنا حَليبٌ وخُبزٌ مصنوعٌ من طَحِينِ الشّعير
غدَاؤنا فُولٌ… أو بُرغُلٌ… وفِي أَحسَنِ الأَحوالِ سِكبَةٌ مِن جَارَتِنا أُمّ وائلٍ… الّتي تَأتينا بالطّعامِ الوَفير
عِند العشاءِ… نَجمَعُ ما تبقّى مِن فُتاتِ يومِنا… وَنأكُلُ بِضعَ لُقيماتٍ يُقِمنَ صُلبَنَا… واهِمينَ أَنفُسَنَا بالشّبَع… إنَّ الأوهامَ عشاءُ الفقير
جَدِّي والدُ أُمي يُقيمُ مَعنَا، أُحِبُهُ كثيراً رُغمَ أنّهُ يُنهِكُنِي طُولَ اليومِ بِطلَبَاتِهِ، وَلكنّني مسؤولٌ عنهُ… فَجَدِّي يا سادة ضَرير
يَقِدُّ وَجهَهُ نوراً… صَحِيحُ أنَّ عيناهُ الزَرقاوَين تَفتَقِدانِ الضّياء ولكنّهُما تَحكِيانِ الكثِير
يوميّاً يَروِي أَمتَعَ القِصَصِ… غَريبَةٌ عَجِيبَةٌ لا تَمِتُّ لِلكَونِ بِصِلَةٍ… أَحدَاثُهَا لَم تُشاهِدها في فِيلم «أكشِن» ولن تَسمَعُهَا عَبرَ الأَثِير
جَدِّي مُصَابٌ بالزَهايمِر خَيالُهُ خصبٌ كُلّ دقيقةٍ يُناديني باسمٍ… دَقِيقَةٌ عامر وَدَقَيقةٌ سَمير! انصِتوا هَا هُو يُناديني : يا مُنير
عندَ الغداءِ لا نَجرُؤ على إشعال التلفاز فلن يَسمَح لَنا جَدّي بِالأكلِ سَيقول : اعزمُوا السّيدَ المُذيع آتوني بِه أَخرِجُوهُ مِنَ الأَثير!
سَنَنتظِرُه حتّى يُنهي نَشرةَ الأخبار ثُم نَعزِمُهُ ليتعشّى معنا! وهل الطّعام من أمامنا سوفَ يَطير؟
وإن سَرَقَ أحدُنا لُقمةً يَا وَيلُهُ… وَيلٌ لَه وَبِئسَ المَصير
لِيَبدأَ مُحاضَرَتَهُ عن الأخلاقِ… المُثُل… والكَرَم ثُمّ يختَتِمُ ندوتَه العظيمة! لِيقول: مَا أقلّ ذَوقَكُم… أينَ العادات أين هو الضّمير
رفيقُه الدّائم حَضرتي إن خَرَجَ بمفردِه لَن يَعُود سَينسَى الطَريق ياحسرتي في العُطلةِ نخرج لا نَعودُ إلا حينَ تُمطِرُ مَطَراً غَزِير
نَركُضُ من شِدّةِ البَردِ يَتَعَثّرُ جَدّي… يقعُ… نَضحَك… يركِلُنِي يقولُ لي: وَيحَكَ انتَظِرني يا مُغَفل أتَظُنُّنِي مِثلُكَ بَصِير؟
البَردُ في مَنزِلِنا لا يقلُّ قرساً عن الخارجِ… لا نَنامُ عادةً إلا عِندَ تَجَمُّدِ الدّم في أطرافنا… يا لَهُ من بردٍ! وأيُّ بردٍ؟ إنّهُ الزّمهرير
لا إخوةَ لي أبوايَ بالكادِ يُطعِمَاني وهل يسَتجلِبانِ لأنفُسهما همّاً ثاني؟ ننامُ نفترِشُ الأرضَ… نومُ الفقيرِ فوق السّرير أمرٌ مَرير!
مَا يُعَّزي قُلُوبَنَا : أنّ الأغنياءَ حتّى لو ناموا على ريشٍ أو حرِير… فإنّ الأحلامَ مُنصِفَةٌ لا تُفَرِّقُ بينَ أَمِيرٍ أو فَقِير
سَعِيدٌ أنا… فَخُورٌ بوالديَّ… فَهُما لَيسَا مُجرَّد أَبَوَينِ عَادِيَّينِ بل يُساويان عندي الكَثير
كَثِيراً ما تَشتَهِي نَفسِي… فَأنَا طِفلٌ… لا أستَطِيعُ التّحَكُّمَ بِنَفسِي ولا كَبحَ جِمَاحِهَا كَما يَفعَلُ الإنسَانُ الكَبير
حِرمَانُ الطُفولَةِ لا يُضاهِيهِ حِرمَان، يتَشبّثُ بالذّاكرةِ صَعبُ المحوِ يَكسِرُ الرّوحَ فلا تُرَمِّمُهَا مَرَاهِمٌ ولا قَنَاطِيرٌ من دَنانير
كانَ والدي يُردّدُ دومَاً مَقُولةً شَهيرةً: «لو كان الفقرُ رَجُلاً لقتلتُه»…الحِرمَانُ مع الجوعِ شعُورٌ كافِرُ حَقير
أشتَهي… مَلابس… ألعَاب… أطعِمة… ولكن أُمَنّي النّفْس بِغَدٍ أفضَل!… أَتَذَكّر فَقرنا المُدقِعِ المَرير
ثُمّ أقولُ: يا أَهبَل حتّى لو حَصَلتَ على الأطَايِبِ… فَلَن تَهضِمَهَا أمعَائُك تِلكَ حِكرٌ على الأغنِياءِ وهل معدةُ الغنيّ كمَعِدةِ الفقِير؟
حتّى بالمَعدة هُناك فرق؟ أمعاؤنا مبرمجةٌ على نوعٍ معيّن؟ وبُطونهم تتّسعُ للمواعين وإن شبعوا يتحلَّونَ بالعسلِ والعَصير!
نَركُضُ طُولَ النّهار لِنُحَصِّلَ كفَافَ يومِنا والأغنِياء يركُضون ليهضّموا ما تناولوه من أطايب وما ضجّت بهِ الأوانِي و القَوارِير
أحلُمُ بدرَّاجةٍ كابنِ جيرانِنَا وأقول: هَذه لَيست لأمثالي أتذكّرُ تَعَبَ والدي وجُيُوبَهُ الفارِغَة… أكرَهُ نَفسِي وأتمتمُ : كم أنا شِرّير!
لم أعُد أُرِيدُهَا لا يحِقُّ لي أن أحلُمَ بمثلِها، حتّى لو حَصَلتُ عليها سَتحمِلُني فهَل والِدي على حَملِها قَدِير؟ ثَمَنُها آلافٌ مِنَ الدّنانِير.
…… …..!!!……….
….»……»………!!…….
……….!!…………….،………؟
الآنَ يا سادَة انتهى الفَصلُ الأجمل ولا الأروَع مِن رِوَايَتِي!
فكُلُّ ما ذَكَرتُهُ لكُم لا يُمثّلُ إلا الجَانِبَ البَهيجَ… إنه لَجَمِيلٌ في حِكَايَتي!
اليوم أُسدِلَتِ السِتَارَةُ عن أجمَلِ فُصُولِ حيَاتي
هُنا بَدَأَتْ مأسَاتي… ألَمِي… وَجَعِي… مُعَانَاتِي
مُشتاقٌ أنا… موجُوعٌ… مُتَصَدّعُ القَلب… ألا تَسمَعُ أَنِينِي… نُواحِي… شَجبِي وحَشرجاتِي؟
اشتَقتُ لأبي… لِخُبزِ أُمّي… لحِكاياتِ جَدّي
…………………..؟
………………..؟
…….؟؟؟؟
أَمُصِرُّ أنتَ على سُؤالِك؟
أنتَ يا من تَسأل… وتُريدُ أن تعلَم… ولكنّني لا أنصَحُك!
هدِّئ من رَوعِكَ… سَأخبِرُك… مع أنّني لا أعرِفُ قُدرَةَ تحمُّلك
رُغمَ أَنّي لا أعلَمُ تَحديداً أينَ باتَت رُفاةُ أجسادِهِم لَكن أعرِفُ مَكَانَ أرواحِهِم ومُطمئنٌ أنّها بِمكانٍ عُلوِيّ لا يَطَالُهُ إنسٌ ولا جِنّي
مَاتَت أمّي قَهراً على أبي… الذي كانَ يُدافِعُ عَنّا… عَنّي ..عَنكَ وعن أُمّي… وعن جدّي
أبي البَطَل تَطَوّعَ في حِمص… حَارَبَ في حَماه… فاستُشهِدَ في حَلَب اسمُهُ يُشرّفُنِي يَرفَعُنِي نَحوَ المجدِ يُعلِّيني
لا تَبكِي يا مَن تَسمَع ولا تَتأثر فأنَا عن نَفسِي…مِن هَولِ الألَم تخَدّرتُ… وَصَلتُ لِمَرحَلَةٍ لا شيءَ يُضحِكُنِي ولا شَيء يُبكِيني!
في هَذه اللحظَةِ بالتّحديد نَسِيتُ أَهلي… «الجُوعُ كافرٌ يا أبي»… ها قَد نَسيتُكَ يا أبَتي الغَالي
حتّى أُمّي وأثوابُها الحريريّة المقصّبة… مَعاطِفُها وعَطفُهَا… رَائِحَةُ خُبزِهَا لَم تَعُد على بَالي
جَدِّي لا يَزَالُ حَي… لَكن لا أعلمُ في أيّ أرضٍ هوَ، اشتَقتُ لهُ لِحكَاياته… صَوته يَصدَحُ في أُذُنيّ يناديني : يا سَمير يا مُنير… ثمّ يختِمُها أينَ أنتَ يَا وينسى اسِمي نهائياً!
اشتقتُ لساعةِ الغدَاء أَتَذكُّرُكَ يا جدّي عِندما كُنتَ تُلِحُّ بِعزِيمَتِكَ على مُذِيع نَشرةِ الأخبار في التِّلفاز!
اشتَقتُ لأوقَاتي مَعَك… النُّزُهَات… الحِكَايات… رَكَلاتُكَ لِي عِندَ العَثَرَات…
فتَتَعالى الضّحكات… تَتَسارعُ الدّقات… ياآآآه كانَت أَحلَى الأوقَات
هَاك اللّحظات الجّميلة نعتنَاها حِينَها بالمَرِيرَة… آخِرُ ما كُنتُ أتوقّعهُ يا جدّي أن تكونَ تلكَ الأيَّام البَشِعَة من أجمَل أيّام حياتِي يا حبيبي… آهٍ وألفُ آه… غربيةٌ هي الحياة كَيفَ تتَلاعَبُ بدنَاءة تُغيّرُ لَحظاتٍ عِشنَاهَا ولَم نَكتَرِث لِعُمقٍ يَكتَنِف تفاصِيلَها… لِتقفِزَ بعدَ سنينٍ… عائِدَةً فتَهزَأ وتَشمَتَ بِنا…عادَت تُذكِّرنا بدناءةٍ وخبثٍ تذكّرُنا بلحظاتٍ جميلة سرقنَاها يوماً من صفَحاتِ العُمر… تَنبُشَ أَفراحاً قد دفننّاها وقَفّلنا القَبور بإحكام!… «الأفرَاحُ لا تُناسِبُ الفُقراء»… لأنّ وجَعَها قَاتِل!
الفَرح… المَعِدَة… الدّنيا… المرَاتب… كلّ شيءٍ فيه تفرقَة… حتّى الأحلام خَذَلتنِي
كُنتُ أظنّها عادِلة… حتى لو نمت على الأرضِ… لا تُميّز بين غنّي أو فَقير
اليوم خانَتني الأحلام أيضاً… قَتلتَني… دمّرَتني…
لم أعُد أستطِيعُ النّوم وهل ينامُ الميّت… آه تذكّرت فأنا لَستُ بميّتٍ… أنا «ميت تقمَّص جسد حيّ»
إن غَفِلتُ أَقولُ عند استيقَاظي : ها قَد خانَتني الأحلامُ مُجدداً يا لَيتَني كنتُ مِتُ لا فِقتُ ولا من نَومي نهضت
… فحِين تَأتي لحظةُ النّوحِ والأنِين نُقتَلُ إذا تذكّرنا لحظَاتٍ من فرحٍ وحنِين
جَدِّي أتسمَعُني؟ أنتَ كبيرٌ… ناهزتَ الخامِسَةَ والتِّسعين… هَرِمتَ وخرّفت…أمَّا أنا ابنُ الخمسة أعوام أكبَرُ مِنكَ يا جدّي!
ضِعنا كلانَا يا جدِّي… ضِعتُ أنا وتيتّمت… وأنت أيضاً ضِعتَ وتُهت… الآن مُستَحِيلٌ أن تعرِفَ طريقَ العودة… كيفَ تعودُ وأنا بعيدٌ عنكَ لن نلتَقي بعدَ الآن… حتّى لو التَقينَا ما الفَائدة؟
إلى أينَ سَنعود … أَنت أيضاً لَم أَعُد أُعْنَى لأمرك …أو بالأَحرى لا أخَافُ عليك بل أحسِدُك !
للمرَّةِ الأولى أحسِدكَ يا جدّي…. لأنّكَ خَرِفٌ لا تَذكُر أيّ شيئاً
فنسيانُ الحَيِّ صَعبٌ وكَيفَ إذا كانَ ميِّتاً… بالنِّسبةِ التي جمعتهما معاً «أنا مَيتٌ في جسدٍ حَي»!
أحسِدُك يا جدّي لأنّك ضرير… لن ترى حَجم الدّمار الذي أراه حولِي… بَيتُنَا امتَزَجَ مع بيتِ جارتنَا أمُّ وائلٍ… من اليوم فصاعداً لن تأتينا بِسكبةِ الغداءِ! أحسِدُكَ يا جدّي لن ترى الجثَث التي أقفِزُ من فوقِها
البارِحة كانَ حُلُمي درّاجة… اليوم لا أريدُ شيئاً… فكنوزُ الدّنيا وأهلها… لم تَعُد تَكفِينِي…
ولا عَنْ مَن رَحَلوا دَرّاجاتِ العالم تُغنِيني!
اليوم تبدّلَ حُلُمِي فأنا رجلٌ هَرِمٌ عمري خمسَةُ أعوام!…
ما رأيُك أَن أُقايِضَكَ يا سيّدي البَائع؟ أنَبدَأُ البَازَار؟
أُرِيدُ مِعطَفاً حريرياً لأتَدَفَأ أُرِيدُهُ مِن حِيَاكَةِ ورَائِحَةِ أُمّي… وقِصَّةً كَقِصَصِ جَدِّي… وحِذَاءَ وَالِدِي الّذي استُشهِدَ في حَلَبْ
أُرِيدُ حِذاءَ أَبَتِي… أَعطِنِي إيَّاه وخُذ عِوَضَاً عَنهُ كُلَّ العَرَبْ…