كيف نسدّ الفراغ في السلطة ؟
د. أمين محمد حطيط
بات مؤكداً أن منصب رئاسة الجمهورية في لبنان سيشغر مع حلول صباح يوم 25 أيار الجاري، أي بعد أسبوع ونيف من الآن. شغور يعتبر في ذاته وضعاً استثنائياً شاذاً لأنه يفرغ مؤسسة دستورية من شاغلها، ويخل بتوازن طائفي اعتمد في توزيع السلطة في بلد لم تنشأ فيه دولة حقيقية حتى الآن، بل جلّ ما تمّ فيه هو إقامة «منظومة حراس المصالح الخاصة» لجهات داخلية قادها المال والغرائز الطائفية لمقاعد الحكم، ومصالح خارجية لجهات أجنبية اعتبرت أن لبنان جزءاً من فضائها الحيوي الاستراتيجي وحقلاً لمصالحها المباشرة وغير المباشرة.
في ظل هذا الواقع المرير ينبغي الإقرار بأن السلطة في لبنان إن لم ترتقِ الى مصاف السلطة الوطنية التي يحرص على وجودها واستمرارها، فإن وقع الشذوذ قد يكون مختلفاً ومخففاً. وهنا لا بد من تسليط الضوء على الفراغ العملي للسلطة حتى مع وجود أشخاص يشغلون المقاعد، فالسلطة ليست شخصاً وكرسياً وراتباً يتقاضاه ذاك الشخص، بل إن السلطة وظيفة ومهمات وموجبات، فإن لم تضطلع السلطة بمهماتها وبموجباتها وتمارس وظيفتها التي أنشئت لأجلها فإن غياب أشخاصها يكون معادلاً لحضورهم، بل إن الغياب قد تكون فيه إيجابية أكثر إذ يحفز الشعب على الاضطلاع بمسؤولياته التي فوضها في الأصل إلى السلطة ليتيح بناء الدولة.
للدلالة على خواء السلطة في لبنان وتنكرها لمسؤولياتها، نرانا مضطرين إلى سوق أمثلة لن نعود فيها الى عشرات السنين، بل الى حقبة حاضرة نعيشها ويقودنا النظر فيها وتحليلها الى القول بأن لبنان يعاني من حال الشغور في السلطة، رغم وجود الأشخاص في المقاعد في أكثر من مؤسسة دستورية أو إدارية وما عداها:
أين كانت السلطة في مسألة حماية الأرض اللبنانية من الاحتلال وهل حمت السلطة أرضاً ومنعت احتلالها؟ أو هل حررت أرضاً محتلة وأعادتها الى السيادة اللبنانية. والكل يعلم أن الجواب بالنفي ولو لم ينظم جزء من الشعب اللبناني مقاومة بدأ فيها بالحجر والزيت المغلي وارتقى بها حتى باتت قادرة على إرساء معادلة الردع من العدو «الإسرائيلي»، لو لم تكن هذه المقاومة لما حررت أرض عام 2000، ولما منع احتلال الأرض عام 2006، وعندما نص القرار 1701 على آلية سياسية لتحرير مزارع شبعا غابت السلطة المفترض وجودها وعلى نحو مستمر منذ 8 سنوات، ولم تقم بشيء لتحرير تلك الأرض؟ ومع ذلك، من المضحك أن نسمع من ينادي بحصر السلاح في يد السلطة؟ فأي سلطة يحصر السلاح بيدها؟ أهي السلطة التي تنصاع للخارج وتخشاه؟ ثم كيف تُراها ستستعمله في ظل تفككها وتناحرها القائم حتى التآكل؟
ثم أين كانت السلطة في مسألة حماية حقوق لبنان الوطنية الثابتة والمكتسبة في المواثيق والمعاهدات الدولية. ونشير هنا الى مسألتين على سبيل المثال، الأولى في مسألة اتفاقية الهدنة مع العدو «الإسرائيلي» والتي فرضت الدولة فيها واقعاً وتتمسك بها لفظاً، والثانية في مسألة الحدود الدولية. والكل يعلم أن علاقات لبنان مع العدو «الإسرائيلي» تنظمها اتفاقية الهدنة وتراقبها منظومة مراقبي الأمم المتحدة وتنسقها لجنة الهدنة التي تتألف من ضباط لبنانيين و«إسرائيليين» وضباط مراقبين من لجنة مراقبة الهدنة، وألغت «إسرائيل» الاتفاقية من جانب واحد منذ عام 1969 واحتلت مزارع شبعا وأسقطت خط الهدنة وتجاوزت لجنة مراقبة الهدنة ثم جاءت السلطة اللبنانية لتكافئ «إسرائيل» على فعلتها وواكبتها ضمناً في ما فعلت فأنشئت معها لجنة عسكرية ثلاثية بعد عام 2006 لا تستند في وجودها الى اتفاق بيني أو قرار دولي. وهنا نسأل: بأي مبرّر قامت السلطة اللبنانية بهذا التنازل؟ أليس الأولى بها أن تعود الى اتفاق الهدنة ومقتضياته؟ ثم كيف تستعمل السلطة في أدبياتها السياسية ومراسلاتها الدبلوماسية عبارة «الخط الأزرق» وتتعامل معه كأنه قدر مقدر وتتناسى الحدود الدولية وخط الهدنة المتطابق معها؟
ثم أين كانت السلطة اللبنانية من حماية أبنائها والتأكيد على سيادة القانون اللبناني على أراضها وتنصلها من المحافظة على حقوق المواطنيين وحريتهم؟ أين كانت السلطة في مشهد تقشعر له الأبدان ارتسم في لاهاي في منظر ظهرت فيه فتاة لبنانية تمارس الصحافة، وتستدعى على أساس اتهام يمسّ حرية الصحافة في لبنان. تستدعى إلى محكمة أجنبية تسمى دولية ولا يعترف بشرعيتها أكثر من نصف الشعب اللبناني. تقف الفتاة مجردة من أي سلاح أو قوة إلا من قوة الحق وسلاح المنطق لتدافع عن نفسها في ظل استنكاف سلطة بلادها عن حمايتها وحماية حرية الرأي والإعلام كما نصّ عليه الدستور.
أين هي السلطة التي تنصف الشعب وتنصف الموظفين وتنصف العسكريين في حقوقهم ولقمة عيشهم؟ أين السلطة من انقلاب معظم الكتل النيابية على هذه الحقوق التي لم يبق في الميدان نصير لها إلا ممثلو الفئة القليلة التي دافعت عن حرية لبنان واستقلاله وسيادته الدفاع الحقيقي وليس اللفظي الكاذب والمنافق، وهم ممثلو مجتمع المقاومة حصراً الذين ناصروا المظلوم ضد ظلم حيتان المال؟ أين هي السلطة من تهديد مستقبل الطلاب في عامهم الدراسي الحالي؟ أين هي السلطة التي اجتمع نوابها فالتفوا على حقوق الموظف الجائع ليزداد تخمة من ابتلع تلك الحقوق وصادر ثروات الدولة سرقة واغتصاباً؟
إن المشكلة في لبنان ليست في شغور كرسي رئاسة، أي رئاسة أو كرسي إدارة، أي إدارة، أو مرفق عام، بل إن المشكلة أبعد من ذلك بكثير. إنها مشكلة بناء الدولة أساساً وبناء السلطة الوطنية التي تمثل الشعب لا السلطة التي تمثل على الشعب وتغتصب قوته وخيراته وتتنازل عن السيادة وتستهين بالحقوق. وهذه السلطة لديها مدخل وحيد للتشكل لا تتعداه وهو قانون انتخاب يتيح للشعب أن يختار ممثليه ويتيح له محاسبتهم في الانتخابات المقبلة، فعندئذ تكون السلطة للشعب ومن الشعب وليست مفروضة أو مصادرة لقرار الشعب، وعندئذ سيؤسف على فراغ وشغور ويكون ملحاً وضرورياً تفاديه وبأقصى الإمكان، وهو شغور لن يقع بحسب ما أعتقد.
إنه مدخل وحيد للحل إذن متمثل في قانون انتخاب يعتمد على قاعدة النسبية ويطبق في لبنان كلّه على أساس الدائرة الواحدة بعيداً عن سلطة المال والغرائز الطائفية، وعلى هذا الأساس نرى أن المسؤول عن الشغور وعن ضياع الحقوق وعن تضييع السيادة والتفريط بها هو من يمنع الوصول الى قانون الانتخاب هذا وكفى بعد ذلك تباكياً وتكاذباً. فهل يضغط الشعب للوصول الى هذا القانون أم يستمر التباكي على سلطة في فراغ أو فراغ في سلطة لا تقدم إلى لبنان خيراً بل تؤخر؟!
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية