«السرّ المدفون»… حيث ينبت التبغ بين حنايا التلال ويصل عبق زهر الليمون إلى ما بعد بعد حيفا
عبير حمدان
إنها ثمار الجنّة التي لا يدركها الغافلون عن إيقاع النبض الذي يختزنه التراب. هي الأرض تنادي فرسانها وهم المختلفون والمعمَّدون بكحل العيون. عين الأم التي خبّأت في صدرها سرّها الدفين ولم تذرف دمعتها تحت نور الشمس كي لا يبصرها الغاصب ونبّاحوه.
أن تضمّ أمٌ زهرة السوسن إلى صدرها على غفلة من الجميع، وتخشى أن يفضحها الحنين، لفي ذلك عبادة تفوق المشهد المتأطر بشاشة عملاقة، إذ يصبح الدمع جمراً يعيدنا إلى ما قبل التحرير. حينذاك، كان الغالبون يرسمون درب الشهادة على الأديم، وينبت التبغ بين حنايا التلال، ويصل عبق زهر الليمون إلى ما بعد بعد حيفا.
كيف للعدسة أن تنقل الصورة بما يختزن واقعها من وجع وإنسانية يتخطيان العقل البشري، إنها أمّ عامر كلاكش، الشهيد الذي حمل شتلات الزيتون إلى فردوسه الخاص عند بوابة فلسطين، وبقي غافياً في قلبها، فكان «السرّ المدفون» تناجيه بصمتٍ وتصبر لأن «البلد أكبر من الجميع».
حثّتنا كارمن لُبّس على البكاء حدّ الاختناق وهي تروي كيف ودّعت وليدها وباركت خطاه قبيل الترحال. وإلى السماء توجّهت داعية الله أن يتقبل منها هذا القربان. برعت في اصطحابنا إلى تلك الحقبة من تاريخنا اللبناني المقاوِم، ووصلَنا صدى خفقات القلب وكأننا نرافق الاستشهادي عامر كلاكش إلى حيث اختار أن يحيى حرّاً، لتبقى الأشجار في قرانا قيد الوقوف والشموخ.
«السرّ المدفون»، مشهدية سينمائية جمعت حضوراً يؤمن بفعل المقاوِمة لتحرير الأرض، كلّ الأرض من دون شروط. اختارت شركة «الأرز للإنتاج الفنّي» أن تطلقه ضمن أجواء الاحتفال بذكرى الانتصار والتحرير، لما يختزن من رمزية إنسانية قوامها الأمّ الصابرة على الضيم كرمى للبلد.
العمل في عرضه الافتتاحي الأول جمع نخبة من النجوم أبرزهم أبطاله، وأتت الآراء موحّدة حول القضية الأساس المتمثلة بمقاومة الاحتلال فنّياً وثقافياً وسينمائياً، ما يتماهى مع فعل البندقية.
عمار شلق والتحدّي
الفنان عمار شلق اعتبر أنّ في الشخصية التي يؤدّيها حجماً كبيراً من التحدّي ويقول: «سأتحدث عن دوري في العمل لأن الفيلم يحكي عن ذاته. كان هناك تحدٍّ لي كممثل لأنني أنقل ثلاث مراحل عمرية. عمري كشاب، ثم عمري بعد 15 سنة، وبعد ثلاثين سنة. ناهيك عن الخط المقاوم الذي يتحدث عنه الفيلم وهو استمرارية لمسار فنّي سابق بدأته في الغالبون وملح التراب، والآن في درب الياسمين».
ونسأل شلق عن سبب منحه دون سواه من الممثلين الأدوار المركبة والصعبة وأدواراً لشخصيات لها رمزية خاصة مثل الشيخ راغب حرب والقائد العسكري الخفيّ في ملح التراب، وصولاً إلى تجسيده شخصية والد الاستشهاديّ عامر كلاكش فيجيب: «هذا السؤال عليك أن تتولّي الإجابة عنه بنفسك، وربما يجيبك الجمهور والمخرجون والمنتجون، إنما أنا لا أملك جواباً».
ويضيف حول الفيلم: «هذا الفيلم كرّم الشهيد عامر كلاكش، وهو بالأحرى إنارة على والدته التي استطاعت أن تكتم سرّه على مدى 15 سنة، وأقنعت والده أنه مسافر طوال هذه الفترة. هذه الأم العظيمة التي استشهد ابنها واعتُقِل شقيقاه وتحمّلت وصبرت، تستحق كل التقدير. ونرجو أن نكون قد أوفيناها جزءاً من صمودها من خلال هذا العمل».
ويرفض شلق الدخول في لعبة السياسة في ما يتصل بتقبّل مختلف شرائح المجتمع اللبناني الطرح الذي يقدّمه الفيلم فيقول: «فنياً، قيمة الفيلم عالية، خصوصاً أنّ علي الغفاري لديه أكثر من تجربة حصدت جوائز عالمية من ناحية السينما الإيرانية. ومن جهتي، لا أريد التطرق إلى واقع الخلافات السياسية في البلد والتي تنسحب على الإنتاجات الفنية. وكل ما أتمناه أن تسقط هذه الحسابات، ويأتي الجميع ليشاهد عملاً نظيفاً وراقياً، ينقل واقعاً حقيقياً».
معين شريف: الحقّ على الإعلام
بدا الفنان معين شريف متحمّساً بقوة لما ينتظره في قاعة العرض، وأكّد ضرورة تفعيل الجهد الإعلامي في خدمة الفعل المقاوِم ولو في الإطار الفنّي، فقال: «من الطبيعي أن أكون حاضراً في احتفالية من هذا النوع. رمزية الطرح تكفي، ولو أتت متأخرة بعض الشيء، إذ إنّ عدوّنا برع في تفعيل نطاق الدعاية الإعلامية لتسويق مخططاته وتمكّن من السيطرة على الفكر والعقل فنياً ليترافق ذلك مع صواريخه وطائراته الحربية. لذلك كان لا بدّ من مواجهته إعلامياً وسينمائياً ودرامياً، فصراعنا لا يقتصر على الحديد والنار، وأنا ألوم إعلامنا لأنه يغيب عن المادة الفنية والسينمائية التي تتماهى مع فكرة المقاومة، ويجنح نحو الطروحات الخالية من المعنى والبعيدة عن واقعنا».
زين الدين
يؤكّد أحمد زين الدين، مدير الإنتاج في «شركة الأرز»، أنّ الشهداء هم في مرتبة متساوية، وسنشهد أعمالاً كثيرة تروي سيَرَهم فيقول: «اخترنا عامر كلاكش لأن قصته تختلف عن أقرانه من الشهداء الذين ينالون المقام نفسه في وجداننا. إلا أن الاختلاف يكمن في الصورة المرتبطة بالأمّ التي تمكّنت من إخفاء حقيقة استشهاد ابنها عن الجميع كي تحمي عائلتها، وبالتحديد عن والده الذي لم يك مناهضاً للمقاومة كما غمز البعض، إنما كان يشعر بأن العدو قادر على البطش، والمقاومة لن تجدي نفعاً في مواجهته. وقد اخترنا عرضه في أيار لمناسبة ذكرى التحرير. وهو يختلف عمّا سبقه من حيث ضخامة الإنتاج والقصة. وكما لاحظت، ثمّة غياب كامل للعمليات العسكرية والتركيز على البعد الإنساني. يمكنني وصف العمل بكلمتين: إنسانيّ بامتياز. وهو خطوة أولى لتقديم أعمال مماثلة كي نعطي كل شهيد حقّه».
زياد بطرس على خطّ النار
يتمسّك الملحّن زياد بطرس بالتفاؤل الذي ترجمه في ألبومه «على خطّ النار»، ويسجّل حضوره المميز في حفل افتتاح «السرّ المدفون». وبكلمات قليلة، يلخّص رؤيته قبيل العرض قائلاً: «للقصة التي يتناولها الفيلم رمزية خاصة، فهؤلاء من يعبّد الدرب نحو القدس، ومن حقنا جميعاً الذهاب إلى القدس. أرى ذلك صورة قريبة جداً، وليس بالضرورة أن يكون الحشد الحاضر كبيراً، فالأهمية تكمن في نوعية الحاضرين وإيمانهم بفكرة المقاومة، ثم لا ضرورة لنحكم على حجم الحضور في حفل الافتتاح ولننتظر بعيداً عن التوقعات، وأظن أن العمل بما يمثله سيحقق نسبة مشاهدة لا يُستهان بها».
سمر أبو خليل والصدمة الإيجابية
من ناحيتها، اعتبرت الزميلة سمر أبو خليل أننا سنرى طرحاً مختلفاً بعيداً عن التكرار، إذ قالت: «اعتدنا أن تقدّم لنا الجهة الإنتاجية المهتمة بسيرة المقاومة والمقاومين واقعاً عايشه مَن رزح تحت الاحتلال لفترة طويلة. وأظن أننا سنرى معالجة مختلفة بعيدة عن فخّ التكرار وقد نُصاب بالصدمة الإيجابية».
آلين لحّود والعمل الجبّار
تصف الفنانة آلين لحود الخطوة بالعمل الجبّار، وعن «السرّ المدفون» تقول: «القصّة تصيبني بالدهشة، وأعتبر أننا سنشهد عملاً جبّاراً بما يتضمّنه من الإنسانية. وكيف لأمّ أن تتحمل كل هذا الوجع وتخفي حقيقة الفعل البطولي الذي جسّده ابنها على مدى سنوات كي تحمي عائلتها؟».
أما عن مدى تقبل الناس العمل فتقول لحّود: «إجمالاً، يبتعد جزء كبير من الناس عن فرضية الإحساس بالوجع المرتبط بمشاهدة أعمال ضمن الإطار المطروح في الفيلم. لكن هذا لا يعني أن نلغيها من الخريطة الفنية السينمائية. فمن الجيد أن نضيء على أمور قد تصيب أيّ شخص منّا كونها قضايا نعيشها باستمرار. فدوماً هناك الظالم ومغتصب الأرض، يقابله المقاوم الذي يموت لنحيى بكرامة. وهناك الأمّ الصابرة والأخت المظلومة، الحياة ليست عبارة عن مشهد ترفيهيّ فحسب، بل هي مجموعة من المشاعر الإنسانية المحقة التي تستحق الذكر. ولعل المشكلة تكمن في منهجية التعاطي الإعلامي مع أعمال من هذا النوع كي تخرج من دائرة الفئوية لكل الناس، مهما اختلفت انتماءاتهم وتقاطعت معتقداتهم مع الفكرة التي تتبنّاها الجهة منتجة العمل. ومن جهتي، أرى أن التنوع في المجتمع دليلَ عافية ويجب الإفادة منه لنتقرّب من بعضنا لا لنتباعد».
جورج شلهوب: روعة في الإنتاج
بين الحضور، التقت «البناء» الفنان جورج شلهوب بينما كان يراقب باستمتاع، وأدلى بالتصريح التالي: «رأيت روعةً في الإخراج والإنتاج والتصوير وأداء الممثلين، لكن هناك الكثير من الميلودراما بشكل قوي ومبالغ فيه. وعلى رغم بعض التكرار في النصّ، إلا أن المخرج تمكّن من ضبط الإيقاع بشكل ممتاز. برأيي كان بالإمكان أن تنتج عن القصة الأساسية خطوط درامية أوسع، تفسّر أكثر طبيعة كل ما أحاط بالشاب الذي نفّذ العملية الاستشهادية، إن لجهة المحتل، أو أهل الأرض، إلا أنه عمل جيد ويستحق المشاهدة».
كارمن لُبّس… سموّ العطاء
كارمن لُبّس، الممثلة والإنسانة التي أبكت الحضور بدور أمّ الشهيد الصابرة، تكلّمت عن مشاركتها في الفيلم: «شخصية أم عامر كلاكش لا تشبهني على الصعيد الانساني. إنما هي أقوى منّي لأنها مثال لهذه الأم القادرة على التضحية بكل شيء لتحافظ على العائلة والأرض. وفي ذلك سموّ ينقصنا في لبنان كي ننقذ ما تبقّى».
وعن سبب اختيارها لأداء هذا الدور تقول: «لا يمكنني الإجابة على هذا السؤال، وربما رأت الجهة المنتجة أنني قادرة على إيصال الصورة الحقيقية عن هذه الأمّ اللبنانية الصابرة والمقاوِمة بأمانة، وهذا أمر يُشرّفني».
لُبّس تأسف لأن عملاً من هذا النوع ربما يكون له جمهور من فئة واحدة، كونها ترى أن التقسيم واقع في بلد صار الاختلاف فيه أقرب إلى الخلاف. لكنها تصرّ على مبدأ المشاركة بأعمال لا تنفصل عن الواقع، بمعزل عن كلّ ما نشهده من انقسام سياسيّ. وتشير إلى أن دورها كفنانة، يكمن في إيصال الصورة كما هي وبكلّ أمانة وإبداع.
ممّا تقدّم، يبدو أنّ «السرّ المدفون» سيجد مكانه على الخريطة السينمائية اللبنانية ولو أن البعض يراه مرتبطاً بفئة دون سواها من اللبنانيين، إلا أنّ صورة الحقيقة راسخة في وجدان كلّ إنسان حرّ.
يذكر أن فيلم «السرّ المدفون» من بطولة: كارمن لُبّس، عمار شلق، باسم مغنية، يوسف حداد. ومدّته 90 دقيقة، ويبدأ عرضه في صالات السينما بدءاً من مساء يوم غدٍ الخميس 21 أيار.