«حزب الله» عشية عيد تحرير جنوب لبنان

د. إبراهيم علوش

مثّل تحرير «الشريط الحدودي» اللبناني في 25 أيار عام 2000، بعد اثنتين وعشرين سنة من الاحتلال، تخللها اجتياح صهيوني للبنان عام 1982، ولادة جديدة للمقاومة اللبنانية بقيادة «حزب الله». فقد حوّله ذلك النصر من قوة مقاومة، أسوة بقوى المقاومة القومية والوطنية واليسارية والإسلامية الأخرى التي شاطرته شرف البسالة والشهادة أو سبقته إليها، إلى قوة تحرير، وحوّله بالتالي، منذ تلك اللحظة، إلى قيمة وازنة في المعادلة اللبنانية.

كلا، لم يكن «حزب الله» أول من حمل السلاح ضد العدو الصهيوني وأدواته في لبنان، ولم يكن حتى قد تأسس عندما احتل العدو الصهيوني «الشريط الحدودي» في 15 آذار 1978، لتسلم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بذلك وقتها، في ظل تفاهمات وقف إطلاق نار مع المبعوث الأميركي فيليب حبيب اعتبرتها أنها تمثل اعترافاً أميركياً بقيادة المنظمة كـ»ممثل شرعي وحيد». لكن «حزب الله» كان الدعامة الأساسية لمشروع تحرير الشريط الحدودي المحتل، وكان مهندس المضي بذلك المشروع إلى نهايته المظفرة.

كانت تلك علامة فارقة ونقطة تحول في المشهد العربي بعد اتفاق أوسلو ومعاهدة وادي عربة والقمم الاقتصادية التطبيعية بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني في الدار البيضاء 1994 وعمان 1995 والقاهرة 1996 والدوحة 1997 . وكانت نقطة التصاعد الأسي المؤدي للتحرير، هي تفاهمات نيسان عام 1996 بعد «عملية عناقيد الغضب» الصهيونية ضد لبنان، وهي التفاهمات التي شرعنت استهداف المقاومة لقوات الاحتلال الصهيوني «وجيش لبنان الجنوبي»، بعد تحييد المدنيين والأماكن المدنية على الجانبين، وهو ما يختلف بشدة بالمناسبة عن تفاهمات وقف إطلاق النار في غزة، التي تحظر استهداف قوات الاحتلال تحت وطأة استهداف المدنيين الفلسطينيين. لهذا، جاء تحرير «الشريط الحدودي»، الذي نعيش ذكراه الخامسة عشرة هذه الأيام، تحريراً «نظيفاً»، بلا معاهدات أو اتفاقات أو التزامات بأمن العدو الصهيوني، وبلا طروحات «مرحلية» أو أي مقايضة انتهازية على مبدأ التحرير الخالص باسم «كسب الشرعية الدولية» أو حتى إعلان قبول «حزب الله» قرار مجلس الأمن رقم 425 القائم على احترام «الحدود الآمنة» للكيان الصهيوني. لقد كان تحرير جنوب لبنان، بهذه الطريقة بالذات، العسكرية غير المرتبطة بأي تنازلات مبدئية، عربوناً، مصداقاً لعودة الأرض الموشاة بالأحمر، لتحرير فلسطين.

كانت لحظة التحرير تلك لحظةً فارقة تتجاوز لبنان وجنوبه، كأنما عام 2000 أصبح إيذاناً ببدء ألفية المقاومة. واليوم، بعد خمسة عشر عاماً، صار لا بد من التذكير بتلك اللحظة المضيئة في ليل العرب بعد أن اقتربت نيران الطائفية من أردان من صنعوا ذلك النصر المبين: كانت تلك لحظة «حزب الله» التاريخية إذ شقت شعبيته في الشارع العربي عنان السماء. لكنها لم تكن لحظة «حزب الله» وحده. فقد جاء تحرير «الشريط الحدودي» رافعةً معنوية للشارع العربي أشعلت جذوة التوق في وجدانه لمشروع المقاومة والتحرير بعد خموده، وجاء التحرير ضربةً سياسية في الرأس للأنظمة العربية وقيادة منظمة التحرير التي تذرعت بـ»عدم تكافؤ ميزان القوى» لتنجرف في طريق المعاهدات والتطبيع والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني. وجاء تحرير «الشريط الحدودي» مقدمةً كبرى من مقدمات الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول عام 2000. لذا يمكن القول إن تحرير جنوب لبنان، بمقدار ما أثّر في التوازنات اللبنانية الداخلية ليجعل من «حزب الله» قطباً أساسياً فيها، فإن آثاره العربية كانت أكبر بما لا يقاس.

كان تحرير «الشريط الحدودي» استكمالاً لتحرير جنوب لبنان بعد الاجتياح الصهيوني عام 1982، ولم يستطع من حاولوا التشكيك بعدها بنصر المقاومة في صيف عام 2006 أن يزعموا أن تحرير «الشريط الحدودي» المحتل عام 2000، وتحرير جنوب لبنان من قبله، لم يحدث أو أن الكيان الصهيوني لم ينسحب منه جاراً أذيال الخيبة. إنما لم يكن ثمة مفر عندهم من محاصرة آثار تحرير الجنوب اللبناني في الشارع العربي، لأن مثل ذلك النصر يهدم الأساس الواهن الذي بنوا عليه اندفاعتهم التسووية والتطبيعية. فإذا كانت «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، كما قال السيد حسن نصرالله، ماذا نقول في من يبني سياساته برمتها في الصراع العربي-الصهيوني على قوتها؟! وماذا يتبقى له إذا كشف نصرُ المقاومةِ وهنَها؟! وكيف يبرر تطبيعه واستسلامه بعدها؟!

في تلك اللحظة تصاعد اللعب على وتر التحريض الطائفي لبنانياً وعربياً. حاولوا تجريد النصر من أبعاده الوطنية اللبنانية والقومية العربية وحتى الإسلامية والأممية. قالوا للبسطاء إنها كانت «صفقة بين الشيعة واليهود»! فجاءت حرب صيف عام 2006 لتكشف أن المقاومة اللبنانية لا تلعب بالسلاح ودماء المقاومين، سواء اعترفوا أن في ذلك الصيف نصراً أم لا! اطلقوا «المحللين السياسيين» على القنوات الفضائية ليقللوا من أهمية النصر، ونذكر منهم هنا بقول عزمي بشارة على «الجزيرة» آنذاك، أن الانسحاب من جنوب لبنان «جاء بضغط من الرأي العام الإسرائيلي»، لمن تابع جيداً، مصوراً الأمر كنتاج للتأثيرات «السلمية» داخل «المجتمع الإسرائيلي»، ومتجاهلاً دور عمليات المقاومة في إنتاجها، كما أن الرأي العام الأميركي، مثلاً، لم يجنح في الانسحاب من فيتنام، أو العراق من بعدها، إلا بعد أن تكسّر رأس جيشه هناك! فالرأي العام الصهيوني لم يجنح للانسحاب من جنوب لبنان لأن دعاة التأثير فيه «سلمياً من الداخل»، سحروه ببيانهم وخطابهم التعايشي، إنما تحت وطأة بساطير المقاومين.

أخيراً، لا يستقيم الحديث عن تحرير جنوب لبنان عام 2000 من دون التنويه إلى دور سورية فيه، وهو الدور الذي لم يقتصر على تأمين عمق استراتيجي ودعم لوجستي أساسي، بل على تأمين مظلة سياسية إقليمية ولبنانية للمقاومة، وهو ما يدفعنا للحديث عن معسكر مقاومة مستهدف… وللحديث بقية، بهذه المناسبة، بخاصة في ما يتعلق بـ»حزب الله»، وما له وما عليه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى