إيران بين العين والحجاب ٢
نرغب من خلال صفحة الدراسات أن تتضمن كل مجالات الثقافة والأدب، ومنها أدب الرحلات، الأدب الذي ينقل إلى القارئ نبض حضارات من الممكن أن تكون قد غابت عن معارفه.
في هذه الدراسة، يفصل لنا د. منير مهنا، مشاهداته الحية عن الحضارة الفارسية، إلى جانب ميادين تفاعلها مع حضارتنا القومية، مبرزاً أعلاماً فكرية وفلسفية وفنية ساهمت في تفاعل الحضارتين.
د. منير سعيد مهنا
زيارة أصفهان
نترك مدينة يزد لنتجه جنوباً بواسطة حافلة نقل كبيرة نحو مدينة أصفهان، الرحلة امتدت لأكثر من 6 ساعات ونصف مع استراحة قصيرة. قطعنا مسافة تزيد على 450 كلم، السفر براً سمح لنا بمشاهدة البّر الإيراني على امتداد أراضٍ شاسعة شبه صحراوية، وتجمعات سكانية متناثرة على مرمى مشاهد لجبال بركانية لافتة للنظر.
اسم أصفهان يرتبط بوعينا بفنّ حياكة السجاد، فلطالما سمعنا عن السجاد الأصفهاني وجودته ومهارة صانعيه، وكأنما اسم إيران مرتبط إلى حدّ ما بهذه الحرفة المميزة التي يعود تاريخها إلى العهد الأخميني منذ أكثر من 2500 سنة، ولإيران وسجّادها خريطة تعطي السائح صورة عن صناعة السجاد في مناطقها. أخذنا دليلُنا تحت وطأة رغبة البعض من المشاركين إلى بازار معرض خاص لبائع سجاد يعرفه ويثق ببضاعته، وبدأ البائع بعرض منتجاته وشرح مميزات كل قطعة منها، نقوش وألوان مذهلة وتمايز في الأحجام والصور.
يحمل السجاد المصنوع في الأرياف البعيدة أبعاداً هندسية فقط، ذلك المصنوع في المدن يحمل جمال الطبيعة وألوانها، فخصائص البيئة تنعكس في نقوش السجاد، تلك شيرازية وهذه أصفهانية وتلك كاشانيه إلخ… أما الأسعار فلكل عقدة ونوع خيط سعر، بعضنا اشترى قطعة أو اثنتين وبمبالغ وصلت إلى 6000 دولار للقطعة الواحدة، وحين كانت الصفقة تتم كان التصفيق يعلو منّا نحن المتحلقين حول البائع والمشتري. كل تلك المعلومات توافرت لنا تفاصيلها لاحقاً في زيارتنا متحف السجاد في العاصمة طهران، حيث يوجد أقدم نموذج لسجادة إيرانية يعود تاريخ صنعها لأكثر من 2500 سنة، وقد حفظها الجليد الروسي من بقايا رحلة أهلك أهلها الثلج، والنسخة الأساس معروضة اليوم في متحف بطرسبورغ.
ميدان نقش جيهان
بعد استراحة، توجهنا إلى ميدان نقش جيهان أو ساحة الإمام، المعلم السياحي الأبرز في أصفهان حيث يبلغ طوله 512 متراً وعرضه 163 متراً وهو من الإرث العالمي حالياً وتحت إشراف منظمة اليونيسكو.
وميدان نقش جيهان جيهان معناها العالم ، كان في ما مضى مكاناً للاستعراضات العسكرية والألعاب التي تجرى تحت أنظار الملوك الصفويين المطلين عليه من شرفات قصر «علي قابو» ويعني الاسم الباب العالي، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، ويقابله مسجد الإمام لطف الله العاملي المميز بقبته كأجمل قبة لمسجد في العالم، وأيضاً لكونه مسجداً مخصّصاً للنساء فقط، وتتوسّط بين القصر والمسجد أحواض مياه كبيرة وحدائق للتنزه والاستراحة، وفي الجهة الجنوبية يقف شامخاً بعظمة هندسته مسجد الإمام مسجد الشاه بارتفاع مآذنه حتى علو 48 متراً بينما ترتفع قبته إلى نحو 53 متراً.
دخلنا المسجد، فإذ بنا أمام باحاتٍ متعددة، وفي وسط الباحة المركزية للجامع شاهدنا وسمعنا إعجازاً لصدى الأصوات المتردّدة في جنباته كافّة، صادفنا شاباً زرادشتياً يقف في بقعة محدّدة من الباحة وينشد بصوت جميل، فإذا بالصدى يردّد نشيده 7 مرات متتالية. لاحقاً علمنا أن هذا المكان بالذات كان يقف فيه إمام المسجد المكتظ بالمصلين فيسمعونه جميعاً مهما كانوا على مسافة منه. والمدهش أن تلك المعالم التراثية كانت من إبداع مهندسين لبنانيين من جبل عامل، إرث هندسي يشهد على عمق التواصل بين لبنان وإيران.
قصر هشت بهشت الجنان الثماني وقصر الأربعين عموداً
في أصفهان، ترى العين جمال الإبداع في النقوش والزخارف، قصر هشت بهشت الجنان الثماني مثالٌ لا يمكن وصفه بأسطرٍ قليلة، بناء من طابقين تمّت هندسته على شكل ثمانية أضلاع غير متساوية ويصل طوله إلى 30 متراً وعرضه إلى 26 متراً، ومن حوله حديقة بلبل العندليب وهو من روائع الأعمال العمرانية الأثرية في أصفهان.
أما قصر جهلستون أو الأربعون عموداً، فإن هذا القصر الصفوي العظيم كان واحداً من بين الثلاثمئة قصر التي بنيت في أصفهان أيام كانت عاصمة لإيران ويُعدُّ من أجمل القصور. وقد اكتمل بناؤه في عهد الشاه عباس الثاني على رغم أن البداية في تشييده قد ترجع إلى عام 1006 هجري/ 1598 ميلادي. وقد أخذ القصر اسمه من الأعمدة المنتشرة في مدخله، فمنها عشرون قد صُفّت في ثلاثة صفوف، كل منها يتألف من ستة أعمدة بالإضافة إلى عمودين آخرين على جانبي المدخل. وعندما كانت تنعكس هذه الأعمدة على سطح مياه البركة يصبح عددها وكأنها أربعون عموداً.
ولا شكّ أن الرسومات الزيتية على جدران القصر بريشة الفنان رضا العباسي تجعل من القصر متحفاً فنياً مميزاً.
أصفهان لا تكتفي بإدهاش زائريها، فالناس يقولون: أصفهان نصف جيهان أي نصف العالم ، ومعالمها السياحية ليست إسلامية فقط، ففيها توجد كنيسة «فانك» للأرمن وتعتبر من أجمل كنائس إيران التي تجمع في طرازها المعماري ما بين الفنين الإيراني والأوروبي.
التجوّل في المدينة لا ينتهي إلا بزيارة جسورها الأثرية التي تمتد فوق الشريان المائي للمدينة لنهر «زايده رود»، حيث ترى المئات من الأشخاص يتجمعون أفراداً وعائلات بين جنبات جسر 33 قنطرة لمشاهدة جريان النهر، وعلى جسر خاجو ترى مئات العابرين وهم يطلّون من فوقه على مياه النهر المتدفقة، أما في وسط الجسر فتظهر غرفة مميزة قيل لنا إن شاه إيران محمد رضا بهلوي كان يصطحب ضيوفه المميزين من رسميين وسفراء ليجالسهم فيها. وهي الآن غرفة مقفلة لا يمكن دخولها.
ما لفتني هو تعليق دليلنا السياحي على أهمية النهر في حياة الأصفهانيين، فلولا نهر زايده رود لما ازدهرت أصفهان، وحين تعرَّض النهر للجفاف أصاب الوجوم نفوس أهل المدينة، قال علي دليلنا السياحي : «نحن نخشى الجفاف، وإيران مقبلة على مرحلة من الجفاف نتيجة التغيّرات في المناخ العالمي، إنه أحد الهموم الضاغطة على حياتنا ومستقبلنا».
السياحة الداخلية في إيران
إلى جانب ذلك، لفتني الحراك السياحي الداخلي بين المحافظات الإيرانية، بحيث تشهد الطائرات الإيرانية إقبالاً كثيفاً من الإيرانيين الذين يفضّلونها على غيرها من وسائط النقل. وخلال دخولنا الأماكن الأثرية، كنا نصادف مجموعات شبابية آتية من طهران لزيارة أصفهان، بطاقات الدخول للمواقع الأثرية كان ثمنها أكثر بضعفين من تلك المخصصة للإيرانيين.
شاهدت أستاذاً منشغلاً بتعريف طلابه إلى تراثهم الثقافي والحضاري، حييّتهم سريعاً بينما كانوا يتابعون فيلماً عن قصر علي قابو ومعالمه، ولاحقاً شاهدت صبية أتعبها صعود الدرج المتعرج ليصل إلى الطابق الثالث في القصر حيث غرفة الموسيقى فجلست تستريح لحين عودة زملائها، فالغرفة كما يقال كانت تحفظ أصوات موسيقى العازفين فيها ثم تُقفل لحين، وبفضل طلاء خاص على جدرانها وتصميم يبدو على شكل أمكنة لحفظ الآلات الموسيقية، كان الشاه حين يفتح باب الغرفة المقفلة يعود صوت الموسيقى المخزون فيها ليسمعه من جديد. لم يؤكّد أحد المختصين من زملاء رحلتنا تلك المعلومة وبقي الأمر مجرد معلومة معلقة بين شكّ ويقين.
وفي أصفهان أيضاً، لا بدّ من التفاتة لجودة عطر ورودها، فمن أريج أزهارها يُصنع عطر الكعبة، ومن حقولها تستورد فرنسا وأوروبا أجود أصناف الزهور لتصنيعها في معاملها، فتعود إلينا عطوراً بأسماء عالمية.
شيراز مدينة الشعراء
نترك أصفهان لنصل إلى شيراز، ندخل فندقها الجميل والحديث Charman Grand Hotel المطلّ على مساحة المدينة بعلو يصل ارتفاعه إلى 109 أمتار. حداثة الفندق تجعله بمواصفات عالمية وهو المفتتح عام 2011. في الصباح الباكر نتوجّه بالحافلة إلى الشمال الشرقي من شيراز، على الطريق نلاحظ كتابة باللغة العربية على سفوح إحدى التلال، وبطريقة مشهدية واضحة للعيان من بعيد: «يا زهراء»، فكأنما بتلك الكتابة يرمي كاتب العبارة إلى أن يتذكر العابرون بسياراتهم مقام سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء.
برسبوليس
نتابع المسير لنصل بعد ساعة وربع الساعة إلى برسبوليس أو تخت جمشيد ويعني الاسم بالفارسية الحديثة عرش جمشيد . موقع أثري رائع تشهد أوابده الباقية على عظمة ما كانت عليه عاصمة الإمبراطورية الأخمينية 550-330 ق.م . أما اسم برسبوليس فيعني باللغة اليونانية «المدينة الفارسية».
تاريخ المدينة يشهد على ما وصلت إليه الحضارة الفارسية في عهد أعظم ملوكها وخليفة الملك قورش الكبير، الملك داريوس الأول أو دارا العظيم، الذي أمر ببناء قصر آبادانا وقاعة المجلس القاعة ذات الأبواب الثلاثة ، وخزانة الدولة إضافة إلى 7 قصور من حولها، توالى البناء فيها طوال 150 سنة مع تعاقب 4 ملوك وعلى مساحة 130 ألف متر مربع. أما وظيفة برسبوليس وموقعها فلم يكن «مدينة ولا قلعة حصينة ولا معبداً، بل كان يلعب دورين مختلفين من خلال انسجام متماسك إلى حدٍ ما أوّلاً لكونه واقعاً في قلب الإمبراطورية ما جعله مكنزاً ملائماً لادخار ثروات البلاد المتصاعدة يوماً بعد يوم. وثانياً أنه كان مكاناً فاخراً ومناسباً لإقامة مراسم واحتفالات مختلفة كالمهرجانات وعيد النيروز».
ويذكر التاريخ أن خشب أسقف المعابد كان من أرز لبنان، في حين أن الإسكندر المقدوني حين غزا بلاد الفرس قام بإحراق المدينة ونهب كنوزها وتدميرها كاملةً حين دخوله إليها بحدود عام 334 ق.م، وما تبقى من آثار يشهد على هذا الدمار إضافةً إلى ما فعله العرب من تكسير وتشويه لوجوه التماثيل والأعمدة في المدينة بحثاً عن الذهب والكنوز كما حالهم عندما غزوا مدينة هليوبوليس بعلبك في لبنان .
يتنقل دليلنا المرافق بين بقايا الشواهد الأثرية ويقف بنا عند كل محطة شارحاً: «هذا الأسد المجنح مع رأس بشري عند أوّل المدخل المعروف بباب الأمم، وله معانٍ ثلاثة: الأجنحة رمز للحرية، الرأس دليل الذكاء، والجسم تعبير عن القوّة».
نعبر عبر ممّر تحيطه الحجارة الضخمة المجموعة قطعها بواسطة ربائط من الرصاص، وعلى مرمى منا نماذج لتيجان الأعمدة على شكل حصانين متقابلين ونقوش بارزة لزهرة اللوتس المقدسة، نرمق طائراً يشبه طائر الفينيق، فيقول لنا مرشدنا: «هذا هو طائر الـ»هوما» رمز السعادة والحظّ عند النساء وله مكانته عند الصوفيين، فمن يراه ولو لمحة عين يمسسه الهناء طوال عمره. يُذكر أن هذا الطائر الرمز اتخذته الخطوط الجوية الإيرانية شعاراً لها، تحمله على أجنحتها أينما اتجهت أو لربما يحملها على أجنحته.
نتابع تقدمنا لنقف على نقوش جدارية تمثّل استقبال الملك لوفود الأمم والجماعات التي يحكمها والمجسدة بـ28 مشهداً، وفودٌ تحمل الهدايا من ليبيا وباكستان وبلغاريا وبلاد العرب وبلوشستان وغيرها، ويرافق كل وفد مرافق شخص فارسي أو ميدي من الميديين تعرف الفرق بينهما من لباس الفرس القصير بالنظر للبيئة الحارة، بينما يرتدي الميديون اللباس الطويل. وأمام كل وفد من الوفود وخلفه يقف أحد من الفرس أو الميديين حاملاً شلحاً من شجر السرو. نسأل عن السبب فيقال لنا: السرو دائم الخضرة وهو مقّدس في معتقدات الفرس لكون الأرواح تأوي إليه. أتذكر عادة زرع أشجار السرو قرب المقابر في بلادنا، فهل لهذا المعتقد أثر في تلك العادة؟
نتابع التجوال فنرى نقشاً لأسد يفترس ثوراً ويغرز أنيابه في جسده، المشهد كما يفسره مرشدنا السياحي، أن الأسد يرمز إلى الربيع الذي لا يأتي إلا إذا تغذى من الخريف المرموز إليه بالثور. وهذا دليل على سيادة الحياة الزراعية وأهميتها في تلك الحضارة.
قبل مغادرتنا الموقع، وعلى مسافة مرئية من القصور الملكية، وفي تجويف صخري عظيم على مرمى مشرق الشمس، نشاهد من بعيد مدافن محفورة في الصخر، إنها المدافن الملكية، يقول لنا مرشدنا السياحي. سنتعرف إلى مثيلها في محطة زيارتنا التالية إلى «نقش رستم»، حيث قبور العائلة الملكية للملك داريوس، وحيث المشهد أكبر من أن يوصف لما يحويه من نقوش ورسوم.
قبل المغادرة، رأينا أكشاكاً لبيع التذكارات والكتب وغيرها، تتوزع على مدخل الموقع الأثري العظيم. ندخل محلاً لنسأل عن كتب باللغة العربية، يقول الشاب الذي يتولى إدارة المتجر: «لا يوجد عندي أي كتاب باللغة العربية سوى ديوان مترجم لشاعر إيران العظيم «حافظ الشيرازي»، ملامح وجه الشاب توحي بشكلٍ نموذجي عن نمط الشخصية الفارسية، يعرف أننا من لبنان فيقول لنا بكلمات إنكليزية متلكئة: أمي من البحرين، أنا نصف فارسي. يتلهف لتقديم ما نطلبه من كتب عن برسبوليس باللغة الإنكليزية وبتخفيض مميز بالسعر. ألسنا من لبنان، بلد المقاومة؟
على طريق عودتنا، نمرّ ببلدات زراعية منها مارداشت المشهورة بالتين، نلاحظ أساليب الزراعة التي تراعي حفظ مياه الأمطار بين أثلامها العريضة، ونمّر بأراضٍ تتكدّس فيها تلال صغيرة بيضاء، نسأل عن السرّ فتقول لنا وبخبرة من عايشت إيران السيدة أميه أسود الكك: «هنا يجمعون الملح الصخري، ومن عاداتهم زراعة نوع من الأعشاب يضيفونه إلى الطعام لتعويض النقص في مادة اليود»، ويستمر الحديث حول أنواع الطعام وشجونه لنتوقف على الطريق لبرهة قبل أن ندخل مدينة شيراز.
بوابة القرآن ومزار المتصوّف خواجوى كرماني
ننزل من الحافلة فإذا بنا أمام قوس لبوابة حجرية ضخمة يقال عنها «بوابة القرآن»، كانت قوافل الآتين إلى شيراز تعبر من تحتها تباركاً. على يمين الطريق ينتصب تمثال ضخم من الغرانيت الأبيض، وبحشرية نهمة للمعرفة، نترك زملاء لنا لنصعد بغير تصميم مسبق إلى قبر عتيق ومركز للتذكارات، إنه مزار الشاعر والمتصوّف خواجوى كرماني 689- 752 هجري ومعلم حافظ الشيرازي.
زيارة خاطفة لكنها كانت محطة استثنائية بالنسبة لنا، رغم تلقينا لبعض اللوم على تأخرنا، تابعنا بعدها لنعبر سيراً على الأقدام تحت قوس «بوابة القرآن»، ويا لروعة تلك القشعريرة التي سرَت فينا لحظة العبور ونحن نودّع آخر خيوط الشمس على تلك الطريق.