«وما بدّلوا تبديلا» يرصد أدقّ التفاصيل في حياة الأمير عبد القادر الجزائري بقلم حفيدته
خطت حفيدة الأمير عبد القادر الجزائري الأميرة بديعة كريمة مصطفى الحسن الجزائري سيرة حياة جدها في كتاب «وما بدلوا تبديلا»، لتنقل لنا أدق التفاصيل عن الرجل الدبلوماسي والتقي، رمز المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار وانتصاراته ودولته وهجرته وحكمته. ففي مقدمة كتابها تساءلت الأميرة: «هل من شعب يحترم ذاته وهويته يسلم تاريخه وتراثه وقضاياه للنسيان؟»، لتجيب قائلة: «هل من شك أن التذكير بسير رموز الجهاد في تاريخنا ومقاومة المعتدين، هو حب التغني بالماضي، أم هو عمل جليل للتذكّر وأخذ العبر والأمثولات والتأسي، وبعث الهمم، وإحياء الآمال، وحث الأجيال على التمسك بالقيم والكرامة والتضحية».
يحمل هذا الكتاب بين ثناياه مادة تاريخية موثقة، والبداية مع الاحتلال الفرنسي للجزائر ومقاومة الشعب لهذا الاحتلال، ففي 1827 وقف قنصل فرنسا السيد ديفال أمام الداي حسين الوالي العثماني رافضاً باسم دولته دفع الديون المترتبة عليها للجزائر ومتحدثاً بلهجة متعالية، ما أثار غضب الوالي الداي حسين فصفعه على وجهه بمروحة كان يحملها بيده، فاعتبرت فرنسا ذلك إهانة جعلت منها مبرراً للاحتلال، ومن دون سابق إنذار اتجهت السفن الحربية عام 1830 نحو ميناء مدينة الجزائر، وكانت تلك القوات على علم مسبق بطبيعة الأرض والميناء من الناحية الجغرافية، معتقدة أن تلك الخرائط المفصلة التي تحملها كافية للاحتلال بسهولة، فخاضوا العديد من المعارك، لكن في كل مرة كانت هذه القوات تنسحب تجر أذيال الهزائم ومئات الجرحى.
في ما يتعلق بإنشاء الجيش النظامي، أمر القائد ناصر الدين بأن ينادى في المآذن والأسواق ببيان إجباري ينص على أن الوالي ناصر الدين أمر بتنظيم جيش نظامي يواجه جيوش المحتلين، فتلقى الناس النداء بحماسة وأخذ الشباب يتسابقون من جميع المدن والنواحي لتقييد أسمائهم تطوعاً، إذ بلغ عدد المتطوعين ما يناهز عشرين ألفاً في مدة أسبوع، وعندما وصلت أخبار هذه التنظيمات إلى المسؤول في باريس، والمعلومات والتقارير عن انتصارات الأمير على قواتهم في جميع المعارك دبّ الخلاف بين كبار القادة فبعضهم رأى مغادرة الجزائر والرجوع عن الاحتلال، وبعضهم الأخرى رأى أن المكاسب تستحق المغامرة وبذل الجهد والثبات والسلاح، إلاذ أن الهزائم المتكررة أخذت تضعف من عزائم المحتلين وتدخل اليأس إلى قلوبهم ففكر الجنرال دي ميشيل في عقد صلح مع الأمير عبد القادر وحصل على موافقة حكومته في باريس على هذا الاقتراح، وراح ينتظر فرصة مناسبة للاتصال بالأمير، وما أن وقعت حادثة وقوع عشرة من جنوده في كمين قتل أربعة منهم وأسر الباقي وساقهم فرسان الأمير إلى معسكره حتى اتخذها ذريعة للاتصال بالأمير وطرح مشروعه عليه.
بعد المباحثات عقدت الهدنة الموقتة، إذ عاد بن العرش بنسخة من الاتفاقية من دون توقيع، ليعرضها أمير البلاد على مجلس الشورى، وبعد البحث والتدقيق وافق الجميع، ووجد الأمير في هذه الهدنة فرصة لمواصلة تقوية الجيش وتسليحه وبناء الحصون.
إلى أن أعلن الأمير عبد القادر العودة إلى المقاومة المسلحة، ما فاجأ الجنرال تريزيل، إذ لم يكن يتوقعها بهذه السرعة، وعندما وصلت أخبار هزيمة هذا المعتدي إلى السلطات في فرنسا اهتزت غضباً إذ كانت الهزيمة مريعة خسر فيها أكثر من ألف وخمس مئة جندي وثلاثة من أفضل القادة إلى باريس، فاستدعي الكونت ديرلون وحلّ مكانه دارلانج، وعيّن الجنرال كلوزيل مكان تريزيل الذي وضع رهن التحقيق في مركز القيادة في باريس، وقرر كلوزيل دخول معركة باثني عشر ألف جندي، وبأحدث الأسلحة المدمرة التي وصلته من فرنسا.
ألاّ أن اتفاقية وقف الحرب وخروج الأمير من الجزائر بالاتفاق مع الجانب الفرنسي، ألغيت من الطرف الفرنسي أثناء إبحار الباخرة التي رست في مرفأ طولون والتي كان على متنها الأمير برفقة الكولونيل دوماس الذي أخبره أن البارجة ستنتظر في المرفأ بعض الوقت ريثما تصل تعليمات من الدولة العثمانية، ثم أعلمه بأن المفاوضات لم تنته بعد، فشعر الأمير بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأخفى عن الجميع مخاوفه، لكن حدسه السليم وعدم ثقته بعدوه جعلاه متشائماً، وتأكد الأمير من الخديعة عندما سارت بهم البارجة متجهة إلى فرنسا بحسب أوامر الملك بعد إلغاء الاتفاقيات التي لاقت معارضة شديدة من مصادر عليا في فرنسا تبعاً لما ورد في الكتاب، ليتم سجن الأمير في قصر إمبواز.
تشير الأميرة كذلك إلى أنه بعد استقرار حال الأمير في دار بناء عزت باشا الذي أعدته الحكومة لسكناه موقتاً، بدأت أفواج المهنئين تتوافد عليه من العلماء، وكان محور الأحاديث حول أوضاع البلاد وهموم الأمة الواحدة، ولم يفاجأ الأمير بهذا الاهتمام الوجداني من قبل الدمشقيين بقضايا أمتهم، فهذه البلاد هي قلب العروبة النابضة، وبينت أيضاً أن حياة الأمير عبد القادر كانت مجموعة من المآثر الخالدات، وأصبح بعدما قضى على الفتنة الطائفية في سورية محط أنظار العالم، وأمل دعاة استقلال العرب عن الدولة العثمانية التي تتالت هزائمها أمام روسيا، كما أن عدم تحمس الأمير ورفضه للمشروع الفرنسي الذي يرمي لإنشاء إمبراطورية عربية يعود إلى كون ذلك مطلباً فرنسياً استعمارياً واحتراماً منه لمبدأ الخلافة الإسلامية. فارق الأمير عبد القادر الجرائري الحياة عام 1883 وشيع جثمانه في دمشق، بدموع وقصائد وكتب ومقالات فكانت بمنزلة الاعتراف بمكانته وتكريمه.
قدمت الأميرة بديعة الحسني الجزائري مادة تاريخية موثقة تستعرض حياة الأمير عبد القادر الجزائري مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.