المشروع العربي وفلسطين
معن بشور
أذكر حادثة بقيت ترافقني طوال العمر، وقد حدثت في طرابلس حين كنت طفلاً، وذلك إبّان استقبال حاشد في هذه المدينة لقائد جيش الإنقاذ المناضل فوزي القاوقجي. فقد كنا نقيم في محلة الزاهرية التي اصطحبني فيها أخي الاكبر إلى المنشية في التلّ، وإذ بي أسمع رصاصاً وصراخاً. عدنا مسرعين إلى البيت، لم أفهم ما حصل يومذاك، إلى أن أتت السنون وأوضحت لي كيف تحوّل استقبال بطل من أبطال النضال من أجل فلسطين، إلى مسرح دامٍ بين أبناء مدينة مجاهدة عريقة كطرابلس بسبب منافسات محلية.
هذان المشهدان ما زالا يسكنان وجداني وأنا انظر اليوم إلى واقعنا العربي، مقاومة بطولية، حيثما احتاج الامر، في فلسطين في لبنان في العراق وفي كل ارض عربية، واحتراب أهليّ يمزّق دولنا وأقطارنا وجيوشنا في الوقت نفسه، فتساءلت إلى متى نبقى محكومين بهذين المشهدين، كيف لا نغلّب مشهد نضالنا من أجل أرضنا المغتصبة في فلسطين أو في الاماكن المتعددة التي أشار إليها الدكتور محمد المجذوب في فلسطين أو في الأهواز أو اسكندرون أو في سبتة ومليلة أو في الجزر الثلاث، بالفعل هذا هو السؤال الذي نعتقد ان الاجابة عليه لا تكون الا بالتوجه مجدداً وجميعاً نحو فلسطين.
ولعلها من محاسن الصدف أن تتزامن في هذا اليوم، مناسبات عدّة كلها مرتبطة ببعضها، وإنْ بدا بعضُها ذا طابع دينيّ، وبعضها الآخر ذا طابع وطنيّ، وبعضها أيضاً ذا طابع محلي. من هذه المناسبات تأتي ليلة الاسراء والمعراج، ومن يستطيع أن يذكر الاسراء والمعراج من دون أن يذكر المسجد الاقصى ويذكر معه القدس وفلسطين. «فالتوجه إلى فلسطين واجب شرعي، لقد أسرى الله برسوله إلى القدس ليقول إن هذا هو طريقنا جميعاً». أما المناسبة الاخرى فهي ذكرى استشهاد المفتي الشيخ حسن خالد الذي مهما قلنا في استشهاده علينا ان نتذكر ان هذا الرجل، كان رجل التواصل الحقيقي بين لبنان وفلسطين، وكان تجسيداً لهذه العلاقة التي قدّم فيها اللبنانيون آلاف الشهداء، خصوصاً في طرابلس على طريق فلسطين.
والمناسبة الثالثة، وهي عزيزة على قلبي وأعتقد على قلب الدكتور عبد المجيد الرافعي، ورئيس المنتدى في الشمال الاخ فيصل درنيقة وآخرين بينكم، وهي 12 أيار 1970، في ذلك اليوم المشهود وخلال غزوة صهيونية لجنوب لبنان، قام مقاتلون في الدفاع عن ارضنا في الجنوب واستشهد ثلاثة من أبناء حي الرمل في طرابلس: أحمد هوشر ومحمد ديب الترك وسمير حمود، ومعهم رفيقهم من العراق من الموصل صقر البعث.
فلنقرأ ماذا تعني هذه الذكرى، ماذا يعني استشهاد هؤلاء من أبناء الشمال على أرض الجنوب، يجب ان نتذكرهم ونتذكر كل شهداء طرابلس الذين استشهدوا في فلسطين وفي رحاب العالم العربي. ولا ننسى هنا شهداء طرابلس ضد الاستعمار الفرنسي الذين نلاحظ اغفالاً مستمراً لهم. فيما يجب أن تتحول ذكرى الاستقلال أيضاً إلى ذكرى تحية لهؤلاء الشهداء الذين واجهوا بأجسادهم العارية دبابات الاحتلال الفرنسي.
أقول هذا الكلام، لأقول إن الترابط بين ما هو وطني وقومي، وديني وإنساني، في قضية فلسطين، هو أحد عناصر القوة الاساسية، وكل من يريد ان يضع رابطة من هذه الروابط في وجه الاخرى إنما يسيء لفلسطين كما يسيء للقضية التي يعتقد أنه يقاتل من اجلها. فمن يضع العروبة في وجه الاسلام، فإنما يسيء للعروبة أكثر مما يسيء للاسلام، ومن يضع الاسلام في وجه العروبة فإنما يسيء للاسلام اكثر مما يسيء للعروبة. ومن يضع الاثنين في وجه التقدم والديمقراطية والتحرر فإنما يسيء لهما أكثر مما يسيء لهذه الاهداف. إذن، فلسطين تعني هذه القضايا مجتمعة، فلسطين يجب أن ندرك انها ليست المآسي التي نراها، فلسطين ـ أو خارج فلسطين ـ ليست تلك المؤامرة المستمرة لتدمير كياناتنا الوطنية، لتدمير جيوشنا الوطنية، لتدمير نسيجنا الوطني الاجتماعي، إنما أيضاً لفلسطين وجه آخر يجب أن نتمسك به، لأن أكبر ما يخدم عدونا، اليأس الاحباط. فاليأس والاحباط يمثلان الاحتياط الاستراتيجي لدى أعدائنا. فهم حين يقودوننا إلى اليأس والاحباط، إنما يقودوننا إلى الاستسلام… غاية مناهم. لا تهمهم الجيوش التي يحطمون، ولا الاقتصادات التي يدمرون، يهمهم أن يهزموا النفس العربية، أن يهزموا العقل العربي، أن يهزموا الارادة العربية، حينها، وحينها فقط، يكتَب لهم الانتصار، لذلك يجب دائماً أن نقرأ ما حولنا، أن نقرأ الايجابيات.
هذا الكيان الصهيوني اليوم الفرح وهو يرى الدماء العربية تسفك بأيدٍ عربية وغير عربية. يجب أن ندرك انه يعيش قلقاً مصيرياً، هذا الكيان قام على ركائز، قام على فكرة الدعم الدولي غير المحدود، وأنتم ترون الان كل يوم يمر علينا كيف تنكفئ شرائح جديدة من الرأي العام العالمي وحتى من الدول عن دعم هذا الكيان. وآخرها من دون شك اعتراف الفاتيكان بدولة فلسطين، وهو اعتراف لا بدّ أن نتذكر معه المطران هيلاريون كبوجي ـ مطران القدس في المنفى ـ الذي بقي في الفاتيكان بانتظار العودة إلى القدس، فإذ به يصطحب الفاتيكان كله ليكون معه في القدس.
كذلك، من ركائز هذا الكيان العنصري الصهيوني فكرة الامن. كانوا يقدمون هذا الكيان، خصوصاً بعد حرب 1967، بأنه الكيان الآمن المحصن الذي لا يخشى شيئاً، وإذ بهذا الامن يتصدع، يتصدع من الداخل بفضل نضالات الشعب الفلسطيني ومقاومته، ويتصدع أيضاً على الحدود من خلال المقاومة على الجبتهين الشمالية والجنوبية.
وهناك ركيزة ثالثة لهذا الكيان، وهي الهجرة، وكل المعلومات تشير إلى ان عدد الراغبين في الهجرة من هذا الكيان يفوق عدد الراغبين في الهجرة إليه، وكذلك تلاحظون أيضاً ان اشتباكات وصدامات بدأت تحصل ضد الذين أنفقوا المليارات من اجل دفعهم للهجرة إلى فلسطين كالفلاشا، اليهود الاثيوبيين، فهذا الكيان العنصري لا يرفض السكان الاصليين من أهل فلسطين فحسب، بل صار يرفض المهاجرين أنفسهم كيهود اثيوبيا وغيرها.
وهناك أيضاً فكرة تتصل بالعقيدة الصهيونية، هذه العقيدة تتحدث عن «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، بدأت تضطر إلى الانسحاب من أراض احتلتها، بدأت تنسحب من سيناء وانسحبت من غزة، وانسحبت من جنوب لبنان وهذا أمر من الناحية العقائدية تراجع كبير في عقيدة هذا الكيان وفي التزامه العقائدي. لكن علينا أن نعترف ان هذه التراجعات داخل هذا الكيان تتلازم مع هذه الانتصارات التي تحققها فلسطين على المستوى الدولي، ومع الانتصارات التي حققتها المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين، وعلينا أن نعترف أن نقطة القوة الرئيسة التي ما زالت لهذا الكيان الصهيوني، تتمثل في الواقع العربي، خصوصاً الواقع الرسمي العربي.
كتبت مرة: «إن القبة الحديدية التي يحتمي بها هذا الكيان ليست التي اشتراها من الولايات المتحدة الأميركية والتي أثبتت فشلها مقابل صواريخ المقاومة»، القبة الحديدية الحقيقية هي هذا النظام الرسمي العربي الذي يتوجه بكل اتجاه إلا باتجاه فلسطين، إذا كان هناك من مشاريع اقليمية تتسلل إلى المنطقة من إيران أو من تركيا أو من غيرها، فما كان ممكنا لها ان تتسلل لو كان هناك مشروع عربي، ونحن ندرك تماماً أن ما تعرّض له العراق، وما تعرّضت له مصر بعد «كامب ديفيد»، وما تتعرض له سورية، وقبلها الجزائر، ما كان ليكون إلا من أجل ضرب ركائز هذا المشروع العربي، وهو مشروع لا يحرّر فلسطين وحدها فقط، إنما يشكل رافعة على مستوى الأمة وعلى مستوى العالم كله، وكلنا يذكر ان جمال عبد الناصر لم يكن قائداً مصرياً، ولم يكن قائداً عربياً فقط، إنما استطاع من خلال مشروع قاد من خلاله عالماً ثالثاً بكامله، وبقي رقماً صعباً على المستوى الدولي.
إذن، من اجل هذا الامر، لا بد من فلسطين لكي نتّحد حولها. أنا أدرك تماماً، أن بيننا خلافات كثيرة، وأنا سعيد ان الندوة اليوم تضمّ ممثلين عن تيارات وآراء مختلفة في هذه المدينة، وهذه أهمية فلسطين، وهذه قوة فلسطين. ولكننا لا نعتقد أنه يمكن إزالة هذه الخلافات بين يوم وآخر، ولكننا نستطيع أن نوجد آلية من أجل تنظيم هذه الخلافات، من أجل عقلنة هذه الخلافات، من أجل وضعها تحت سقف معين، وهي آلية الحوار، إذ يجب ان نعمل جميعاً من أجل تعميم ثقافة الحوار في مجتمعاتنا، ثقافة قبول الاخر، ثقافة ترفض الاقصاء والابعاد، ترفض الاجتثاث الذي رأيناه في العراق حيث أراد الاحتلال وأدواته أن يجتثوا حزباً، فإذ بهم يجتثون وطناً وكياناً عربياً عزيزاً كالعراق.
أقول هذا الكلام لأؤكد أننا أمام هذه الفكرة الاساسية المركزية. فكرة الدعوة إلى الحوار، وفكرة المشروع العربي. أما في لبنان، فقد قلت مرة في مهرجان أقامته الثورة الفلسطينية في ذكرى تأسيسها وتحدث فيه ممثلون عن تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. قلت لهم: تتحدثون هنا عن حقوق الشعب الفلسطيني، وأنتم تشكلون غالبية أعضاء المجلس النيابي، نريد منكم أن تنطقوا هذا الكلام في البرلمان اللبناني، وتحولوه إلى مشاريع قوانين ترفع الغبن عن أخوتنا الفلسطينيين، إذ لا يجوز ان تبقى قضية حقوق الشعب الفلسطيني متروكة بهذا الشكل. وبالمناسبة نحن أيضاً في ذكرى الاعتداء على جيشنا اللبناني وسقوط شهداء له على يد المجموعات التي وضعت يدها على نهر البارد.
في هذه الايام أيضاً، يجب أن نتذكر ما قاله لنا هذا الصباح الشيخ عبد اللطيف دريان أمام ضريح المفتي الشهيد حسن خالد في ذكرى استشهاده: «إن الفقر رفيق التطرف. إذا أردنا أن نقضي على التطرف، يجب أن نقضي على الفقر»، ليس في المخيمات وحدها، إنما أيضاً في مدننا، خصوصاً في طرابلس التي نشعر أنها معاقبة منذ الاستقلال، معاقبة لأنها وقفت في وجه الاستعمار، معاقبة لأنها وقفت في وجه أعداء القضية العربية. فما نراه اليوم من حرمان في طرابلس وفي كل مدننا وقرانا وفي المخيمات والاحياء الفقيرة، إنما ينعكس أيضاً عدم استقرار وفلتاناً أمنياً وتطرّفاً مدمراً.
لذلك، البوصلة إلى فلسطين، هي بوصلة التلاقي في ما بيننا على رغم خلافاتنا، بوصلة البناء العربي، بوصلة احترام حقوق شعبنا الفلسطيني والدفاع عنها، بوصلة احترام الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لفقرائنا وتلبيتها أينما كانوا.
كلمة ألقيت في ندوة «كيف تكون فلسطين بوصلة» ذكرى النكبة في 15/5/2015 التي نظّمتها الرابطة الثقافية والمنتدى القومي العربي في طرابلس ـ الشمال، وتحدّث فيها كل من د. عبد المجيد الرافعي، ود. محمد المجذوب، وأبو خالد غنيم بسام فلسطين.
الرئيس المؤسّس للمنتدى القومي العربي، منسق الحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمة.