كركوك… هوية برائحة النفط 1/2
نظام مارديني
في لعبة الشطرنج، تموت البيادق لينجو الملك، غير أن هذا لا يوجد فقط على رقعة الشطرنج. فمدينة كركوك تبدو كهذه الرقعة ولكن السياسات القائمة فيها لا تمتد ببعد النظر بسبب قصور في رؤية الجماعات المتنازعة لمفهوم الهوية، غير أن المساس بهذه الجماعات ما زال يعد من المحرمات في لا وعيها حتى ولو كانت سياسات قصيرة النظر.
إن إحدى الطرق لقياس مدى التعقيد في تحقيق الاستقرار بعد انتهاء الصراع هي النظر إلى مدينة كركوك العراقية اليوم. فكركوك تقع في مكانٍ وسطي بين بغداد وأربيل، عاصمة «إقليم كردستان». كما يشكّل موقعها تقاطعاً بين المرتفعات الكردية والبلدات التركمانية والأراضي الزراعية العربية المحاذية لنهر دجلة، وقد توسّعت كركوك إلى حدّ كبير بعد أن بدأ إنتاج النفط في المحافظة في عشرينات القرن الماضي كما يشير مايكل نايتس.
والصراع الإثني في المدينة النائمة على بحيرة من النفط مثل جمر كامن قابل للاشتعال في أي وقت حيث تسكنها أربع جماعات متباينة في وجهة نظرها للمدينة على رغم أن الكلدو آشور بعيدون عن هذا التنازع الذي يظهر على أشده بين العرب والأكراد من جهة وبين الأكراد والتركمان من جهة ثانية. وقد عمق الاحتلال الأميركي من الصراع، غير أن المحصلة واحدة: بؤرة توتر في شمال العراق تعكس حالة من المرارات والاحتقانات القابلة للانفجار، حيث قد يختلط الدم بالنفط العائم فيها. وحيث تتعرض الهوية والشخصية الوطنية لعملية تذويب خطيرة تتم في شكل علني منظم ومباشر.
أتى اسم كركوك من السومرية، بمعنى العمل العظيم كار عمل وكوك عظيم . وقد ورد لها اسم آخر هو أريخا في عهد الملك سرجون الأكدى. وتكشف الآثار التاريخية في قلعة كركوك أن عمرها يمتد إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وقد اكتسبت أهمية دفاعية لدرء المخاطر عن المدينة. ويبدأ تاريخها مع انبثاق النار الأزلية عام 550 قبل الميلاد في العهد الكلدانى، والتي ما زالت مشتعلة لحد الآن، وسبب اشتعالها وجود الغاز المنبثق من تحت الأرض، والتي يطلق عليها في الوقت الحاضر بابا كركر ، مع العلم أن هذه التسمية حديثة لم تعرف قبل احتلال العثمانيين للعراق، وهى تعني بالعربية أبا النار. وبسبب وجود هذه النار الأزلية ومنذ ذلك العصر تحولت هذه المدينة إلى مركز لعبادة الإله حدد .
وقد اختلف المؤرخون والباحثون في اسم كركوك. ويرى الدكتور مصطفى جواد أن اجتماع ثلاثة كافات في هذا الاسم من الأمور النادرة من حيث الحروف وتركيبه اللفظي، وهذا ما يدل على أنه من الأسماء الآرامية.
وتتميز المدينة بتنوع خاص. تعيش القبائل العربية في سهول غرب وجنوب غربي المدينة، فيما تعيش القبائل التركمانية إلى الجنوب والجنوب الشرقي، بمحاذاة الطريق المؤدي إلى بغداد، وإلى الشمال باتجاه أربيل والسليمانية تعيش القبائل الكردية. أما المدينة نفسها فهي مزيج متداخل من الإثنيات الثلاثة، مع الأقليات الأخرى التي لها حضور ديني وثقافي لا يخفى كالكلدو أشور.
لا شك كركوك تصلح أن تكون مختبراً لمستقبل العراقيين فهي إلى منتصف السبعينات كانت تفتخر بتنوعها، قبل أن يتحول ذلك التنوع إلى خطر يتهدّدها بسبب السياسات الشمولية التي لم تقر بالتنوع الخصب الخلاق، ولا تعترف به.
كثير من التركمان تكرّدوا بسبب المخالطة، والمزاوجة، والمجاورة للأحياء الكردية، وكثير من الأكراد تعرّبوا بفعل المعايشة المشتركة. وليس من الغريب أن تجد أسماء شخصيات كردية معروفة تنتسب إلى قبائل عربية، وتستوطن المدن الكبرى في العراق. والعكس صحيح أيضاً بالنسبة للعرب والتركمان، فالتحولات الدينية، والمذهبية، والعرقية، واللغوية، بقيت خاضعة للسياق الثقافي الذي يسكنه الفرد، أو الأسرة، أو القبيلة، فلا تمضي إلا أجيال قليلة حتى يذوب الفرد في الجماعة الجديدة، ويصبح جزءاً منها. وقد توصل عالم الاجتماع علي الوردي إلى أن كثيراً من القبائل العربية في العراق تحولت مذهبياً بسبب ارتحالها، وسكناها في مواطن قبائل مختلفة مذهبياً عنها. فلا وجود لهوية ثابتة، ونهائية، ومطلقة. وكما يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان فنحن بحاجة لهوية بأربعين وجهاً. أي أننا نحتاج إلى هوية مركبة تعيد تنظيم علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا.
مع انحسار الهوية الجامعة للعراقيين، باتت الانتماءات الأولية مصدر الالتقاء والجذب بين الكتل والطوائف السكانية سواء من الباحثين عن الأمان الاجتماعي ــ الاقتصادي، أو ممارسة دور سياسي في منظومة علاقات السلطة والنفوذ الجديدة. فالهويات الدينية ــ العرقية، العشائرية، المذهبية، والجهوية، باتت تشكّل محور التفاعل الداخلي العراقي بشقّيه: التعاوني والصراعي.
هذا الأمر يضع العراق أمام أزمات نفسية واجتماعية خطرة، ما يستوجب وضع حلول ناجعة لحل هذه الأزمة، والتي يمكن أن تبدأ في معالجة الجذور الأساسية لمواطن التعصب بين الجماعات الإثنية والطائفية والمذهبية يجعلهم يشعرون بهوية عراقية واحدة، بعيداً عن «إشكالية الكراهية بين الجماعات كما يقول جون ر. شيفر المدى 19/4/2015 .
ولكن قضايا الصراع السياسي ــ الأفقي حول كركوك، تخفي في جوهرها قضية الثروة والسعي للاستئثار بها لكونها ستشكّل محدداً مهماً من محددات النفوذ، فمن سيملك الموارد، سيكون قادراً على حشد المؤيدين والاستجابة للمطالب الطائفية والإثنية في منطقته.
لا شك في أن تفكيك الهوية الوطنية هو أولاً وقبل كل شيء فعل ذاتي، جعل من الممكن التدخل الأجنبي وفعالية أساليبه في تعميقه أو تحويله إلى «منظومة».
فالهوية ليست رغبة بل تاريخ ومعنى. وحالما يجري التلاعب بها بطريقة مخالفة لواقع علم الاجتماع، فإنها تؤدي بالضرورة إلى اختلال الأوزان الذاتية وتخريف للوعي، بخاصة ونحن في أشد الحاجة إلى تأكيد مفهوم بأن المجتمع وحدة لا تتجزأ.
والجماعات، أو الأقليات، هم ضحايا أوهام الهوية ومراثي مدوناتها الكبرى، ورهابات فرسانها الذين تركوا الجماعات عند حافات الحروب الأهلية المفتوحة، ليس على صعيد جماعة وجماعة أو أقلية وأقلية، بل حتى بين الجماعة أو الأقلية ذاتها، وهذا تمكن رؤيته من خلال الانقسام الكردي ـ الكردي الحاصل في شأن مدينة كركوك.
أعاد الانقسام الكردي ـ الكردي حول مدينة كركوك الجدل من جديد إلى دائرة الضوء حول أهمية هذه المدينة للعراق في شكل عام، ولكل جماعة و«هويتها» في شكل خاص. وهذه المرة جاء انقسام الكرد بعيداً عن الانقسام الذي كان قائماً قبل تصريحات محافظ كركوك نجم الدين كريم مقرب من الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني بتحويل المحافظة إلى إقليم مستقل 11/5/2015 .
فهل تقود هوية المدن الجغرافيا السياسية في المستقبل؟ وهل يقود هذا التغيير في الهوية إلى اللعب بالديمغرافية السكانية لهذه المدن؟ وهل تم رسم الحدود بين العراقيين، وآن الأوان لرسم حدود الجغرافيا؟ أم سقطت الهوية الوطنية العراقية في امتحان المحن؟ وماذا يمنع من إيجاد تنوع واختلاف يكونان مصدري ثراء في تكوين بيئة تساعد في وحدة الحياة بين مكونات المدن قبل وصولها إلى حافة الهاوية وتصبح بيئة طاردة لأهلها؟