العرب في محنتهم: أولويات المواجهة وآلياتها

د. عصام نعمان

يعقد المؤتمر القومي العربي اجتماعه العام السادس والعشرين مطلعَ الشهر الجاري في بيروت. سبقت اجتماع المؤتمر ندوات بحثية في مختلف الأقطار العربية لمواجهة المحنة التي تعانيها الأمة، محنة لعلها الأقسى في تاريخها المعاصر. في هذا السياق، نظّم مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية في الجيش اللبناني، قبل شهر، مؤتمراً تحت عنوان «الشرق الأوسط في ظلّ متغيّرات السياسة الدولية»، شارك فيه سياسيون وأساتذة جامعيون وضباط كبار وسفراء عرب وأجانب وجمهور من المهتمين.

تركّزت الأبحاث والمناقشات على محاور ثلاثة:

الأول: هل شجع «الربيع العربي» على التطرف الديني أم فتح باباً لانعتاق العرب من نير الأنظمة الديكتاتورية؟

الثاني: بين «الربيـع العربـي» والتطرف السلفي، هل ألغت الصراعـات الإقليمية والدولية حدود «سايكس بيكو» الثابتة لمصلحة حدود متحركة، وهل من «سايكس بيكو» جديد للمنطقة؟

الثالث: ما مصير التنظيمات المتطرفة في عالم العرب في ظل تقاطع المصالح واختلاف النظرة حول مكافحة الإرهاب؟

تصدى مناقشون للباحثين بملاحظات وأسئلة متعددة المقاربات والمضامين. بدوري أدليتُ بملاحظاتٍ عشر تضمنّت، بعد تطويرها لاحقاً، الأفكار الرئيسة الآتية:

أولاها، أن النظام العربي الإقليمي بدأ بالانهيار منذ هزيمة 1967 واستكمل انهياره بعد اندلاع انتفاضات «الربيع العربي». وقد جاء الانهيار على درجة من القوة والاتساع لا يُرتجى معها إي أمل في استعادة النظام المتهاوي.

ثانيتها، أن انهيار النظام العربي الإقليمي كشف واقعاً ثقيلاً وشاملاً كثيراً ما تجاهله أو أغفله أهل السلطة كما أهل المعارضة في عالم العرب وهو وجود تعددية راسخة وواسعة تنطوي عليها أمتنا، وأن أهل السلطة كما أهل المعارضة تغافلوا عن هذه الحقيقة فما أقاموا أنظمة حكم تراعي خاصيّة التنوع والتعدّد بل أقاموا أنظمة تسلطية أو تغاضوا عن تلك التي أقامتها دول الاستعمار القديم وساندتها لاحقاً دول الغرب الأطلسي.

ثالثتها، أن التغافل عن خاصيّة التنوع والتعدّد من جهة وقيام أنظمة تسلطية نتيجةَ التدخلات الخارجية من جهة أخرى شكّلا عاملين أساسيين في استشراء حال التخلّف في بلادنا.

رابعتها، أن القوى الخارجية الطامعة لاحظت ظاهرات وتداعيات التعددية والتسلط والتخلف فتسللت من خلالها بل اقتحمت البلاد العربية وأقامت فيها احتلالاً أو أنظمة موالية أو تابعة.

خامستها، رافق سقوط بعض الأنظمة العربية أو تصدّعها بعد انهيار النظام العربي الإقليمي اندلاعُ حروب أهلية نتيجةَ اختلالات داخلية وتدخلات خارجية وذلك في كلٍ من ليبيا والعراق وسورية واليمن. أما مصر، فقد تفجّرت فيها اضطرابات أمنية عقب إزاحة الإخوان المسلمين من السلطة نتيجةَ ثورةٍ شعبية ومساندةٍ مباشرة لها من القوات المسلحة.

سادستها، تخلّلَ الحروب والاضطرابات التي عصفت بمعظم بلاد العرب، صعودٌ متسارعٌ لتنظيمات التيار الإسلاموي الإرهابي الذي تمكّن من انتزاع قيادة المعارضة من القوى السياسية المعتدلة نسبياً، والدخول في تحالفات ميدانية مع قوى خارجية، والسيطرة تالياً على مناطق واسعة في كلٍّ من ليبيا والعراق وسورية واليمن.

سابعتها، انحسار مركزية القضية الفلسطينية في الحياة السياسية العربية، وتعذّر استكمال المصالحة الوطنية بين التنظيمات الفلسطينية المتصارعة، وانخراط بعضها في أنشطة تنظيمات إرهابية في مسارح الحروب الأهلية المحتدمة في بعض بلاد العرب.

ثامنتها، نزوع إيران إلى مساندة قوى المقاومة العربية ضد «إسرائيل» وضد التنظيمات الإرهابية ما أثار مخاوف كلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا والسعودية على مصالحها ومناطق نفوذها.

تاسعتها، تصدت الولايات المتحدة لتنامي نفوذ إيران وبرنامجها النووي بعقوباتٍ اقتصادية وحصار مصرفي ثم بمفاوضات معقدة ترمي إلى عقد «اتفاق نهائي» معها يتضمن قيوداً وضوابط للحؤول دون تطورها إلى قوة نووية عسكرية وذلك مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، في حين حاولت تركيا والسعودية الحدّ من توسّع نفوذها بضرب واستنزاف حلفائها في العراق وسورية واليمن.

عاشرتها، تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مع اتساع الحروب الأهلية ما أدى إلى ازدياد أثقال التخلف والمديونية العامة والفقر والمرض والبطالة والهجرة واكتظاظ البحار بقوارب الموت الملأى بالجياع النازحين إلى أوروبا وغيرها.

يتضح، في ضوء هذه الملاحظات، أن ثمة اختلافاً في تقويم مختلف الأطراف العربية والإقليمية والدولية، السياسية والأمنية، للتحديات الرئيسة التي تواجه العرب في هذه المرحلة. ومع ذلك ثمة توافق على أن أبرزها ثلاثة: «إسرائيل» والإرهاب وإيران. فهل أن لبعضها، من حيث الفعالية والخطورة، ما يستوجب المواجهة قبل غيره؟ أم أنها متساوية في الخطورة ما يستوجب مواجهتها مجتمعة؟ وفي حال استحق موجب المواجهة داخل الساحات القطرية أو على مستوى الأمة كلها، ما هي المبادئ والمرتكزات الأساسية الواجب اعتمادها في هذا المجال؟

أرى أن الأمة في حال مخاض، وهو مخاض عميق ومديد. غير أن ما نتج منه خلال السنوات الأربع الماضية من تفاعلات وتحوّلات يتطلّب، إن لم يكن يُوجب، توافق القوى الوطنية الحية على المهام المرحلية التي يقتضي النهوض بها وتحديد الآليات اللازمة لإنجازها.

انطلاقاً من أن القضية المركزية في حاضرنا ومستقبلنا هي قضية الأمة كلها بما هي تحقيق الأهداف الستة للمشروع النهضوي الحضاري العربي: الوحدة أو الإتحاد ، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، والتجدد الحضاري، يكون من المنطقي تحديد المهام الوطنية المرحلية وآلياتها في ضوء التحديات الرئيسة التي سبق رصدها وتشخيصها، على النحو الآتي:

أولى المهام الوطنية مواجهةُ الحرب الناعمة الشاملة ذات الفصول الساخنة أحياناً التي يشنّها العدو الأميركي الصهيوني ضد الأمة على مدى قارتها المديدة بقصد تحويل وضع التجزئة الناجم عن اتفاق «سايكس – بيكو» إلى حال من التفكيك والتفتيت المفضية إلى إحاطة «إسرائيل» نفسها بمجموعة من دويلات على أسس قبلية وطائفية واثنية، عاجزة تالياً عن بناء قوة عربية رادعة. آليةُ المواجهة تكون في تعزيز تحالف قوى المقاومة وتوسيع حالات وجبهات الاشتباك مع العدو الأميركي الصهيوني وحلفائه المحليين.

ثانية المهام الوطنية مواجهةُ حملة «إسرائيل» وحلف «الناتو» وحلفائهما لتحويل الشقاق السني الشيعي التقليدي صراعاً عرقياً بين العرب والفرس بقصد دفع العرب المتخوّفين من إيران، أيّاً كانت هواجسهم ودوافعهم، إلى التحالف مع دول حلف «الناتو» والاحتماء بها. آليةُ المواجهة تكون بالتركيز على قضية فلسطين بما هي البوصلة المركزية لتحديد هوية الأعداء، وتوظيف الجهود اللازمة لمقاومتهم ودحرهم.

ثالثة المهام الوطنية مواجهةُ صعود الحركات «الجهادية» الإرهابية المدعومة من بعض دول حلف «الناتو». آليةُ المواجهة تكون بمسارين متزامنين: الأول، إقامة تحالفٍ عريض بين القوى الوطنية السياسية الحية وقوى المقاومة العربية الميدانية لردّ هجمات التنظيمات الإرهابية التكفيرية والمتعاونة مع القوى الخارجية الطامعة وإجلائها عن المناطق التي احتلتها، ولا سيما في محافظات العراق الغربية ومحافظات سورية الشرقية، وذلك منعاً لقيام دولة إسفين هناك تفصل سورية جيوسياسياً عن العراق وبالتالي عن إيران، والثاني تنظيمُ حوار جدّي بين القوى الوطنية الحية والإسلاميين السوريين، أفراداً وجماعات، والتوافق معهم على نهج لمقاومة التدخلات الخارجية كما على برامج الإصلاح الديمقراطي وحكم القانون والعدالة والتنمية.

رابعة المهام الوطنية تحويلُ سياسات دول النفط والمال العربية عن دورها المعادي لقوى المقاومة العربية أو المتحفّظ في شأنها إلى المشاركة في خطةٍ عربيةٍ متكاملة للتنمية الشاملة. آليةُ التحويل تكون بالنضال السياسي والثقافي والنقابي من أجل اعتماد الخطة المشار إليها والإسهام الوازن في مشروعات التنمية العربية لتعزيز نهوض الأمة، اقتصادياً وتكنولوجياً وحضارياً، بغية ضمان مكانٍ لها ومكانة في العالم المعاصر.

خامسة المهام الوطنية مواجهةُ ضغوط الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتركيا وحلفائها الرامية إلى التأثير في عملية إعادة تموضع مصر الإستراتيجي بقصد الحؤول تالياً دون استعادة دورها العربي والإقليمي. آليةُ المواجهة تكون في تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العربية باتجاه إقامة اتحاد كونفيديرالي وسوق مشتركة بين الدول الراغبة والقادرة، بدءاً بسورية والعراق كمرحلة أولى وصولاً إلى الأردن ومصر لاحقاً، وإعادة تفعيل جامعة الدول العربية بغية بناء نظام إقليمي جديد يشكّل لاحقاً نواةً لإتحاد عربي على غرار الإتحاد الأوروبي.

كل هذه المهام والآليات المقترحة تستوجب إعادة نظر شاملة بثقافتنا الماضوية السائدة وبالمقاربات والتكتيكات التي تضطلع بها حالياً القوى الوطنية الحية في مختلف الأقطار العربية. ولعل العروبيين الثوريين واليساريين الديمقراطيين والإسلاميين السوريين الحريصين على خدمة قضية الأمة بكل وجوهها أولى وأقدر من غيرهم على تطوير المناهج والآليات الكفيلة بالوفاء بالمهام المرحلية.

ورقة قدّمت إلى المؤتمر القومي العربي الذي تنعقد هيئته العامة في بيروت بتاريخ 2 و3/6/2015

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى