الوقوف على ناصية شاعر الرفض العربي أمل دنقل
كمال القاضي
في أمسية ثقافية وليلة من لياليها التي تتكرر كل أسبوع كتقليد يجمع المثقفين ويفتح نوافذ الحوار والفكر، جاء إحياء «دار الكتب» الذكرى الثانية والثلاثين لوفاة شاعر الرفض أمل دنقل، مشحوناً بالعواطف والحنين. فلم تمض مسيرة الشاعر الكبير سدى، بل خلقت تياراً إبداعياً لا يزال يشكل الوعي على خلفية إنسانية وسياسية، تعكس ملامح القصيدة الثورية، برصانة وهدوء وعمق يتجاوز غوغائية التعبير ويرمي إلى ما هو أبعد من مجرد التصدير لحالة انفعالية جوفاء تستلهم من الشعر تأثيرها، بينما هي لا تعدو كونها محاولات للتقليد والاستنساخ، فما أكثر من يتشبه بأمل ويحاكي شعره وهو على مسافة بعيدة منه.
يمثل الشاعر الكبير رمزاً للمقاومة وحجة على مرحلة زاخرة بالأحداث والمنافسة الإبداعية، ولا يزال هو الأكثر جاذبية لجيل كامل من المبدعين يتمثلون ويمشون على دربه، عساهم يحتلون نصف مكانته ويدخرون ربع موهبته، وهناك من يؤمن به إيماناً حقيقياً لأنه الأصدق والأعمق والأثرى وصاحب التجربة. في كل الأحوال يستحق أمل دنقل أن يكون موضع الاهتمام وبوصلة القوافي المتمردة عبر المراحل والأزمات.
في أمسية «دار الكتب»، كانت الشهادات وكان التباين في الرؤى حول حياة الشاعر وطبيعته ومنهجه. وبدأ الحديث جابر عصفور وزير الثقافة المصريّ الأسبق، مؤكداً على تميّز أمل وتفرده واعتزازه بقوميته وعروبته، وأوجه الاختلاف والتشابه بينه وبين عبد الرحمن الأبنودي، وهما الصديقان الحميمان اللذان ينتميان إلى بيئة جنوبية واحدة وثقافة ترسخت بالإيمان المطلق بالإبداع والشعر، كأداة تعبير صادقة ومؤثرة. وذكر عصفور أن أمل بدأ حياته الشعرية مبكراً جداً وهو في سن المراهقة، إذ كان ينظم الشعر العمودي بتمكن جعل ما يكتبه محل شك من أصدقائه وأساتذته في المدرسة الثانوية، ما دعاه إلى هجائهم كي يجبرهم على الالتفاف إلى موهبته الكبرى، وقد كان من دلائل تميز الشاعر الجنوبي الكبير أنه كتب قصيدته «أوراق» وهو في سنّ السادسة عشرة من عمره ونشرها في المجلة المدرسية، وكانت البداية نحو انتهاج الرفض كلغة أدبية عرف بها وتحمل تبعاتها.
يقول جابر عصفور، إن أمل نشر قصيدته الأولى عام 1958 في مجلة «صوت الشرق» التي كانت تصدرها السفارة الهندية، ومن هنا بدأ اسمه يتردد كموهبة صاعدة وصوت شعري له خصوصيته وله جرس مختلف.
في العام نفسه، بدأ أمل دنقل ينتقل تدريجياً من الكتابة العمودية، ويحدّد شخصيته الإبداعية فكتب قصائد عاطفية لحبيبته ذات العينين الخضراوين، ولكنه سرعان ما غير مساره حين كتب عام 1962 قصيدة «اسبارتكوس» ليعلن فيها رفضه الانقياد، على رغم أنه كان من محبّي الرئيس عبد الناصر والمؤمنين به كزعيم في بداية حكمه، إلا أن وقوع النكسة عام 1957 غيّر من موقفه فصار مجابهاً لسياسة ناصر وناقداً لها.
ويقدّم محمد بدوي شهادته مستهلاً كلامه بخصوصية شعر أمل، الذي اتسم بالرفض كونه يرفض الانصياع للسلطة، فهو من ظلم من عمه الذي اغتصب ميراثه فجعله رافضاً كل أشكال الظلم. ويعرج بدوي على جانب آخر من حياة الشاعر الشخصية فيشير إلى اعتداده بنسبه وانتمائه إلى سلالة الأمويين، وقد عبر عن ذلك في بعض قصائده، فضلاً عن أن أمل كان قومياً عربياً بامتياز متصلاً بثقافته الجنوبية غير منفصل عنها، الأمر الذي رآه محمد بدوي مغايراً لثقافة أدونيس الفرنسية.
ويربط الناقد الأدبي شعبان يوسف بين الشاعر الجنوبي الكبير أمل دنقل والمخرج شادي عبد السلام، كاشفاً عن زاوية سينمائية رأى فيها شادي صورة الشاعر فأراد أن يسند إليه البطولة ليلعب دور أخناتون لتماثل الشبه والشخصية، ولكن رفض أمل وعدم ترحيبه بالتجربة حالا دون تنفيذ المشروع. وفي ملمح آخر غير شعري نوّه يوسف بقدرة شاعر الرفض على كتابة النثر، ذاكراً المقال الاول الذي كتبه الراحل عام 1961 ورصد فيه ظاهرة سرقة الشعر والسطو على إبداع الغير، ولفت يوسف النظر إلى قوة حدس الراحل ودقة قراءته المستقبل والواقع، على ضوء معطيات توافرت لديه مبكراً واستشرف من خلالها ضباب الإرهاب والعنف إبان اغتيال يوسف السباعي، الذي حزن لموته كثيراً وجاهر بحبه له، بل ذكره بما يليق به كمبدع ومثقف كبير.
في السياق الاحتفالي الذي نظمته «دار الكتب» لإحياء ذكرى الشاعر الأهم، ساهم الكاتب الصحافي حلمي النمنم وطارق النعماني بما أثرى الحديث ووسع من دائرة الحوار، فقد شارك الاثنان بما أضاف الكثير فتحدث كل منهما عن خصائص الشعر عند أمل دنقل وأهم سمات اللغة والتشبيه والأبعاد السياسية وملامح الرفض في خطابه وأبياته وقوافيه، وهو المفعم بالروح القتالية والقابض على جمر النزاهة المثقف عن الممالأة والمداهنة والنفاق الواقف على يسار السلطة، الزاهد في زخرفها، المنتمي للفقراء والبسطاء، القائل في قصيدته الشهيرة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»:
أيتها العرافة المقدسة ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار!
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحدّ السيف قايضوا بنا والتمسوا النجاة والفرار
ونحن جرحى القلب جرحى الروح والفم، لم يبق إلا الموت والحطام والدمار.