ذوقان قرقوط… مسيرة نضال فكريّ لن يمحوها الرحيل
مها الأطرش
تبقى القامات الفكرية والعلمية صروحاً شاهدة على مرّ العصور، ويبقى أصحابها منارة نسترشد بها الطريق وننهل منها المعرفة. أحد هؤلاء، المفكر السوري الدكتور ذوقان قرقوط، الذي رحل قبل أيام عن عمر يناهز 98 سنة، ليسجّل حتى السطر الأخير في حياته، مسيرة نضال فكري وقومي، تاركاً عدداً من المؤلفات والدراسات الغنية والرائدة على مستوى العالم العربي بكامله.
قرقوط ابن قرية ذيبين في محافظة السويداء، كان الطالب المثالي والمحب للعلم الذي قصد دروبه مشياً على الأقدام، فكان يمشي من قريته إلى المدينة ليواصل طلب العلم. وهو السوري الوطني والقومي الذي رفض على الملأ أن يتسلم جائزة التفوق الدراسي من يد ضابط الاحتلال الفرنسي، وهو من انتهج في شبابه فكر المقاومة والقضية الفلسطينية، فساهم في جمع التبرعات وإرسالها إلى لجان مختصة لشراء السلاح لمقاومة الاحتلال «الإسرائيلي» بعد نكبة عام 1948.
عام 1944 قُبل قرقوط في جامعة القاهرة قسم التاريخ لتبدأ بذلك رحلته لخوض غمار العلم من أوسع أبوابه. ثم عمل في السفارة السورية في مصر ليلتقي صديق الدراسة الشاعر السوري الكبير نزار قباني. وبعد إنهاء دراسته، عاد قرقوط إلى محافظته السويداء عام 1954 ليعيّن فيها مديراً للتربية، إذ عُرف خلال هذه الفترة بعطائه وقدرته على الإدارة والإصلاح .
قرقوط الوحدوي الذي يفتخر بأنه عاش في زمن «الوحدة» بين سورية ومصر، واجه ضغوطات سياسية عدّة بعد الانفصال، جعلته يعود إلى مصر ليعمل فيها ويتابع دراساته العليا، إذ حصل على شهادة الماجستير عام 1971 بعنوان «تطور الفكرة العربية في مصر»، وعام 1974 نال درجة الدكتوراه بعنوان «تطوّر الحركة الوطنية في سورية من عام 1920 إلى عام 1939»، ليعود بعد خمس سنوات إلى دمشق أستاذاً في قسم التاريخ في جامعتها.
بعد التقاعد، لازم قرقوط طاولته المنثورة بالورق الأصفر الذي لم يبرح يخزّن عليه مشاهداته السياسية والتاريخية والفكرية، ويدوّن مذكرات حياته الحافلة بالأحداث المرتبطة بحقب تاريخية مهمة في الذاكرة العربية، إضافة إلى عدد من المقالات والدراسات التي بقي يبحث فيها حتى أيامه الأخيرة .
اتّسم قرقوط بسعيه الحثيث وراء المعرفة. فكان على رغم عمره المتقدّم، يصرّ على استحضار أدقّ الذكريات والأحداث التي واجهته خلال رحلته العلمية، كما كان حريصاً على الوجود بين أفراد أسرته، وكان قادراً على توزيع الاهتمام والمحبة بين كافة أفراد أسرته.
الوقت لم يسعف المفكر الكبير ذوقان قرقوط لاستكمال التقاطاته المعرفية ورؤاه التاريخية. وهو فعلاً ما كان يخافه حين قال: «ما أودّ كتابته الآن بعد هذه السنين، أن أصوغ حياتي كلها من جديد، أجمع لقطاتها وأربطها ببعضها، وأظهر خفاياها. فهناك جمل تحتاج إلى كتب، ولا أعرف إن كنت سألحق ذلك، فلدي الكثير والوقت قليل».
والدكتور ذوقان قرقوط عضو جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب ويتجاوز عدد أعماله ستين مؤلفاً تتراوح بين الكتب المترجمة والكتب التي قام بتأليفها ومنها: «المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفوشيوس إلى توينبي»، و«الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي الحديث»، و«المشروع القومي الذي لم يتم»، كما ترجم عدداً من الكتب العالمية منها: «من نهب العالم الثالث»، و«ابن الفقير» و«الثورة الثقافية الصينية» و«العالم الثالث في الاقتصاد العالمي»، و«في العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، و«ليس في رصيف الأزهار من يجيب» .