مؤتمر باريس لحرب «داعش» أم لطمأنتها؟
العميد د. أمين محمد حطيط
تظاهر التحالف الذي تقوده أميركا تحت عنوان «الحرب على داعش» بأنه صُدِمَ لرؤية «داعش» يدخل الرمادي في العراق ويدمر في سورية ويستعد للتوسع حتى يلامس الحدود التركية شمالاً ويبلغ الحدود مع الأردن جنوباً. وتحت هول الصدمة المزعومة تداعى المعنيون بالتحالف إلى مؤتمر في باريس للبحث في الأمر وبلورة استراتيجية جديدة لحرب «داعش». هذا ما أعلنوه، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ ثم هل توصلوا إلى شيء مما أعلنوا سعيهم للوصول إليه، أم أن في الأمر شيئاً آخر؟
منذ اللحظة الأولى التي أنشئ فيها التحالف الدولي بالقيادة الأميركية، وانطلاقاً من طريقة إنشائه وأسلوب عمله المعلن أو المعمول به على الأرض، كنا على قناعة تامة بأن هذا التحالف لن يضع حداً لـ«داعش» ولن يؤدي إلى منعه من التحرّك في الميدان وتحقيق الإنجازات على حساب الآخرين، لا بل كنا وما زلنا نرى أن مهمة التحالف الدولي ذاك ليست أكثر من تخدير المعنيين بأمن سورية والعراق ودفعهم إلى الاتكال على الآخرين لحمايتهم من «داعش»، ثم يقوم «داعش» بالمهمة الموكلة إليه في استباحة المدن والبلدات في العراق وسورية وتدمير آثارها وقتل سكانها أو تهجيرهم.
فـ»داعش» ليس مكوناً لبناء دولة أو كيانات سياسية كما يروجون لها، إنما هو أداة هدم وقتل وتهجير وتنفيذ الإبادة الشاملة بوجوهه الثلاثة: الإبادة الإنسانية المادية والإبادة الإنسانية المعنوية والإبادة التاريخية، إبادة ينفذها خدمة للمشروع الصهيو-أميركي الذي ينفذ تحت عنوان «الفوضى الخلاقة «. ومؤتمر باريس لم يخرج عن هذه المهمة، مهمة التخدير لتميكن «داعش» من الاستمرار في لعب الدور المسند اليه.
ففي عملية تضليل ومجافاة للحقيقة، ادعى مؤتمرو باريس في بيانهم النهائي أن «النظام السوري لا قدرة له ولا رغبة لديه في محاربة «داعش»، وهو قول تكذبه حقائق الميدان، ومسلسل العمليات العسكرية الجوية والبرية التي خاضها الجيش السوري ضد «داعش»، وحقق بوجهه الكثير من الإنجازات الميدانية وألحق به الكثير من الخسائر الجسيمة في الشمال والشرق السوري.
ويدّعي مؤتمرو باريس أنّ العمليات الجوية التي يقوم بها «النظام السوري» تخدم «داعش» في مواجهة الفصائل المعارضة على حد تعبيرهم. وهنا نجد البهتان بأبشع صوره، حيث يرمون خصمهم بما يقومون به، ويتجاهلون أو يتناسون ما قامت به طائرات التحالف الأميركي من إلقاء المساعدات العسكرية لـ«داعش» في العراق وسورية، في مقابل ما أنزلته الطائرات السورية من خسائر في صفوف هذا التنظيم الإرهابي.
إن عملية التضليل هذه ورمي المسؤولية على الغير، ليس من شأنها إلا التعمية على الدور الحقيقي الذي يلعبه التحالف في خدمة «داعش» وتسفيه دور الآخرين الذين يقاتلون الإرهاب بشكل جدي، للتملص من التنسيق معهم والتفلّت من الإحراج والفضيحة في حال حصل التنسيق الفعلي لهذه الحرب.
ومن جهة أخرى، وفي عملية توصيف موضوعي لاحتياجات العراق العسكرية في محاربة «داعش»، حدد رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي مطالب العراق لمحاربته بثلاثة أنواع: استخبارية التزويد بالمعلومات ولوجستية التزويد بالأسلحة والذخائر والعتاد العسكري الميداني وعملانية تكثيف الضربات الجوية والتنسيق في إجرائها مع قوى الحشد الشعبي والجيش العراقي . وهي طلبات من شأنها إن نفذت أن ترفع مستوى القدرات العسكرية القتالية للقوى العراقية التي تعمل بصدق على تطهير العراق من «داعش».
لكن النتيجة التي خرج بها البيان تكاد تكون صفراً على صعيد الطلبات العراقية. إذ لم يحصل العراق على التزام جدي واضح بشيء مما طُلِب، وحمل البيان عبارات إنشائية مطاطة لا تسمن ولا تغني عن جوع، ما دفع العبادي بعد المؤتمر للقول بأن العراق سيكون مضطراً للتوجه إلى موسكو لشراء الأسلحة على رغم أنه دفع لأميركا ثمن الكثير منها ولم يتسلم شيئاً. أما الإسناد الجوي، فقد أجاب عنه الأميركيون أنفسهم بالقول بأن طائراتهم تعود بـ 75 في المئة من الذخائر من دون أن تقصف بها «داعش» ومن دون الإفصاح عن سبب مانع. وعن الدعم الاستخباري، لم يجب الأميركيون لكنهم سربوا القول بأنهم يخشون وصول المعلومات إلى سورية، وهنا قمة الفضيحة الغربية. إذ كيف يدعون أنهم يحاربون «داعش» ويدعون أن سورية لا تفعل، ثم يمنعون المعلومات الاستخبارية الميدانية التي يمكن لسورية أن تستفيد منها في الحرب ضد «داعش»؟!
وأخيراً، نجد أن المؤتمر أغفل كلياً الدعم والإسناد المتعدد الوجوه الذي يتلقاه «داعش» من بعض الدول الحاضرة فيه، بخاصة تركيا، ولم يتخذ منه موقفاً جدياً يمكن صرفه في الميدان، إذ لم تتعرض الدول التي اجتمعت في باريس للدور التركي في توفير كل وسائل الدعم لـ«داعش» بما في ذلك فتح مطاراتها لاستقبال الإرهابيين الآتين للالتحاق بـ«داعش» كما إقامة قنوات التصدير النفطي لمصلحة «داعش» ولم تضيق عليه في شيء من ذلك.
وعليه، وفي نظرة إجمالية لمؤتمر باريس نرى أن هذا المؤتمر كغيره من الاستعراضات الغربية لم يكن مؤتمراً للبحث في كيفية محاربة «داعش» أو سواه من المنظمات الإرهابية، بل كان لقاءً لهضم ما حققته «داعش» في الأسابيع الأخيرة والتنصل الأميركي والغربي من المسؤولية في تمكينه من ذلك، كما كان لقطع الطريق على أي تنسيق محتمل بين العراق وسورية أو ما بات يتصاعد الحديث عنه عن وحدة الميدانين العراقي والسوري في مواجهة «داعش» وقطع الطريق على أي عمل جدي وحرب فعلية تقود إلى احتواء «داعش» أو وقف تقدمه خدمة للمشروع التقسيمي.
لقد انعقد مؤتمر باريس تحت شعار معلن «الحرب على داعش» وسارت أعماله على وقع نية غربية أميركية مضمرة، مضمونها: «كيفية الحفاظ على داعش»، ولهذا بشر فابيوس وزير خارجية فرنسا بأن الحرب على «داعش» ستكون طويلة الأمد»، متناسياً أن العراقيين في أقل من شهرين استطاعوا وبقدرات محدودة إخراج «داعش» من نصف المساحة التي دخلتها في مسرحية تمت في غفلة من الزمن.
لقد شكل مؤتمر باريس الأخير وما دار فيه أو نتج منه دليلاً جديداً لمن ما زال يجهل أو يتجاهل حقيقة الموقف الغربي الأميركي من الإرهاب، وهو موقف المستثمر وليس أبداً موقف المعارض أو المعادي له، ولذلك فإن الاتكال على الغرب في محاربة الإرهاب إنما هو استسلام للمشروع الغربي وتمكين له من النجاح، أما السلوك الناجع فإنه لا يكون برأينا إلا عبر بلورة جبهة إقليمية واحدة يقودها محور المقاومة وتعمل تكاملاً في الميادين كلها بدءاً بالميدانين العراقي والسوري وفقاً لاستراتيجية موحدة وتنسيق تكاملي من دون تعليق الآمال على أحد آخر.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية