رحيل طارق عزيز: أما لهذه القسوة من آخر؟
معن بشور
لم تكن حرية الراحل العزيز طارق عزيز وهو المناضل الكبير والمثقف المميز والشخصية العراقية اللامعة وإنقاذ حياته هي الدافع الوحيد للجهود التي بذلناها، والاتصالات التي أجريناها، والنداءات التي وجهناها من أجل الإفراج عنه، بل كانت هناك دوافع أخرى تحركنا، وما زالت، على رغم رحيل العزيز أبو زياد الذي رفع شأن الديبلوماسية العربية عالياً، وألحق برئيس البعثة الديبلوماسية الأميركية عام 1991 هزيمة إعلامية مدوّية بعد اجتماعهما في جنيف عشية الحرب العدوانية الأميركية والأطلسية التي تذرعت بتحرير الكويت من أجل تدمير العراق.
لقد كان من المنطقي بعد «جلاء» قوات الاحتلال الأميركي، قبل أربع سنوات ونيّف، أن يتم تحرير كل أسرى الاحتلال ومعتقليه وفي المقدمة منهم طارق عزيز ورفاقه وكلّ مقاوم أسهم بدحر الاحتلال، لكن شيئاً من هذا لم يحصل، فخرجت الجيوش من العراق وبقي المقاومون في السجون وبقيت إفرازات الاحتلال وأدواته وفي مقدمها المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية التي تتحوّل اليوم من نصوص دستورية وممارسات سياسية إلى فتنة دموية مدمّرة يرقص على جنباتها أهل الغلوّ والتوحش من جهة وأهل التعصّب والإقصاء وتهميش الآخر من جهة ثانية.
وكان من المنطقي كذلك، بعد سقوط الاحتلال على يد المقاومين الأبطال، وبينهم إخوة لأبي زياد ورفاق، أن يبادر القيّمون على الأمور في بغداد إلى إطلاق مبادرات من أجل مصالحة وطنية وحوار واسع لا يستثني أي مكون من مكونات العراق السياسية أو الاجتماعية أو العرقية، ومن أجل مشاركة شعبية لا مكان فيها للإقصاء والتهميش والاجتثاث، لكن شيئاً من هذا لم يحصل، فبقي المقاومون والمناضلون يستشهدون في السجون، القيادي تلو الآخر، والأسير بعد الأسير، كما رحل بعضهم الآخر وهو بعيد عن بلده ممن «استضافتهم» المنافي، رمزاً بعد رمز ومجاهداً إثر مجاهد فودّعنا سعدون حمادي، والشيخ حارث الضاري، وحسن هاشم الدليمي وغيرهم وغيرهم…
وكان من المنطقي أيضاً وأيضاً أن يستمع القيمون على أمور العراق إلى صيحات المحتجين والمنتفضين في ساحات المدن والحواضر العراقية، لا سيما في الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وصولاً إلى بغداد، ويسعون إلى معالجتها في شكل جذري برفع الظلم عن المظلومين، وفي مقدمهم آلاف الضباط في الجيش العراقي المنحّل على يد قوات الاحتلال، كما برفع الغبن عن المغبونين ورفع الحرمان عمّن حرم من حقه في المشاركة الكاملة في إدارة شؤون بلده، لكن شيئاً من هذا لم يتمّ، بل جرى استخفاف بالمطالب المحقة، واستهزاء بوجع الناس المتزايد، فزاد الاحتقان احتقاناً، والتوتر الداخلي توتراً، والانقسام الأهلي انقساماً حتى جاء من يستغل هذا الاحتقان ويستخدمه لخدمة أهداف مخططات تقسيم العراق وتمزيقه وتفتيته وتدميره خادماً المخطط ذاته الذي جاء به المحتلون الأميركيون وأدواتهم، وعنوانه «إنهاء العراق كدولة، وتدميره كدور وموقع، وإلغاء سيادته الوطنية، وطمس استقلاله وعروبته».
من هنا كنا نأمل أن يكون الإفراج عن طارق عزيز ورفاقه ثغرة في جدار مغلق، وخطوة باتجاه المصالحة والمراجعة والمشاركة، وكان الكثيرون يقولون لنا، لا تكونوا مثاليين طوباويين، فلن تجدوا لدعواتكم صدى، ولنداءاتكم تجاوباً، حتى ولو وسّطتم أكثر الأطراف صلة، وأوثقها روابط، بالقيمين على الأمور في بغداد…
واليوم، ونحن نودّع الرجل الكبير الذي سيبقى رمزاً وطنياً وقومياً وأخلاقياً شامخاً في حياة العراق والأمة، والذي أعطى نموذجاً في الوفاء والالتزام والشجاعة والصدق ينبغي أن يقتدي به الجميع، نأمل أن يتعظ المعنيون بالمعاني التي ينطوي عليها استشهاد قامة عراقية عربية كطارق عزيز في السجن، وهو في حال المرض الشديد، محذرين من استمرار القسوة في التعامل مع المعارضين لأنّ القسوة تستولد القسوة، والعنف يستنبت العنف، وعقلية الانتقام والثأر لا تؤدّي إلا إلى المزيد من الانتقام والثأر…
فهل يكون الرحيل المؤلم لأبي زياد على قسوته فرصة لمن كان وراء إبقائه أسيراً بعد رحيل الاحتلال، سواء كان داخل العراق أو خارجه، لكي يجري مراجعة جذرية لسياساته لإخراج العراق من محنته، ولتحصين قدرته على مواجهة المخاطر التي تهدّده، كما يكون فرصة لرفاق الراحل الكبير لكي يراجعوا بروح نقدية تجربتهم بكلّ جوانبها متمسّكين بما هو مضيء فيها وهو كثير، ومتخلصين من كلّ ما هو سلبي منها وقد كانت له تداعياته الخطيرة…
في وداع أبي زياد، رجل الكلمة الصادقة، والرأي الرصين، والفكر العميق، والموقف الشجاع، لا بدّ من استحضار القيم التي حملها، والمبادئ التي أفنى عمره في سبيلها، لكي نستعيد العراق ببهائه العربي الإسلامي، وتنوّعه القومي والديني الثري، ودوره المشعّ في أمته والعالم، وقاعدة للأمة وجسراً بينها وبين دول جوارها الحضاري التي كان العراق وسيبقى بوابة الأمة إليها ومركز التفاعل بينها وبين الوطن العربي الكبير.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية