معركة المالكية والرفيق الشهيد النقيب محمد زغيب
إعداد: لبيب ناصيف
تعتبر معركة المالكية من أهم المعارك التي خاضها الجيش اللبناني، كما المفرزة اللبنانية المنضوية تحت لواء جيش الإنقاذ التي كانت بقيادة الملازم أول الرفيق محمد زغيب. وقرية المالكية تقع شمال مدينة صفد في فلسطين وعلى بعد نصف كيلومتر من الحدود اللبنانية، وكانت حتى عام 1923 تابعة للبنان، عن الجزء الرابع من الموسوعة الفلسطينية، هذه النبذة عن معركة المالكية.
ليلة 14-15 أيار تحركت الكتيبة الأولى من اللواء اليهودي «يفتاح» وتمكنت من احتلال قرية قدس والمعسكر البريطاني خارج المالكية، وقرية المالكية نفسها، ولم يكن يدافع عن تلك المنطقة سوى عدد قليل من عناصر جيش الإنقاذ على رأسهم الملازم الرفيق محمد زغيب الذي كان يقود المفرزة اللبنانية. وقبل أن يعزز قائد الكتيبة الصهيونية مواقعه المحتلة، دفع العقيد الرفيق أديب الشيشكلي قائد قوات جيش الإنقاذ في الجليل بمفرزتين من قواته تعاونتا مع وحدة من الجيش اللبناني للقيام بهجوم معاكس قوي أجبر القوات الصهيونية على الانسحاب من المنطقة كلها بعد أن خسرت عدداً كبيراً من رجالها، وبذلك جرى استرداد المالكية والمعسكر وقدس. غير أن القوات اليهودية استطاعت إعادة التجمع والتنظيم وتعزيز ملاكها وأسلحتها وبدأت تستعد لاسترداد المالكية، لا سيما أن « القائد العام للقوات العربية « في عمان عدل الخطة السابقة التي كانت تحدد دخول القوات الشامية إلى فلسطين من الحدود اللبنانية، وحدد لهذه القوات محور «سمخ»، وهكذا لم يبق في الشمال سوى وحدات جيش الإنقاذ والجيش اللبناني الذي كلف الدفاع فقط بموجب التعديل الذي أدخل على الخطة.
ليل 19 أيار تحركت قوة «إسرائيلية» معززة بالمدرعات إلى داخل الأراضي اللبنانية وقامت بالتفاف باتجاه المالكية من داخل الأراضي اللبنانية. ونجح العدو في مفاجأة المالكية واحتلالها على رغم المقاومة العنيفة التي أبدتها القوات المدافعة عنها، كما احتل «قدس» ونسف الجسور كافة المؤدية إلى تلك المنطقة، سواء من الأراضي اللبنانية أو الشامية.
قام قائد قوات جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي بتجميع قواته، وقد ألحق به فوج لبناني معزز بالدبابات بقيادة المقدم جميل الحسامي، وفوج البادية، بقيادة المقدم طالب الداغستاني، وسرايا عدة مستقلة وبطاريتي مدفعية.
تقرر أن يكون الهجوم يوم 6 حزيران الساعة الواحدة والنصف ظهراً لمفاجأة العدو الذي تعوّد انتظار الهجوم عند الفجر، وقد طلب القاوقجي مساعدة الطيران الشامي في استطلاع المنطقة بكاملها فاستطاع بذلك أن يعرف بدقة مواقع القوات «الإسرائيلية» ودرجة تحصينها ومناطق تجمع احتياطها.
وفي الوقت المحدد للهجوم بدأت مدفعية جيش الإنقاذ تصب نيرانها على مواقع العدو بينما تحركت قوات الهجوم نحو أهدافها. ودارت معارك عنيفة بين الجانبين، فيما الطيران الشامي يقوم بدوره في القصف والاستطلاع. لم ينته النهار حتى كانت المالكية قد استعيدت، وفي اليوم التالي تمّت استعادة قدس وتطهير المنطقة بكاملها من القوات المعادية. تميزت معارك المالكية بعنف القتال والتعاون الجيد بين قوات جيش الإنقاذ والجيش اللبناني والطيران الشامي.
في معركة المالكية استشهد الرفقاء: الملازم محمد زغيب رقي إلى رتبة نقيب بعد استشهاده ، سليمان الملحم من القريا- منطقة السويداء وسعيد ملاك من نيحا الشوف .
الرفيق الشهيد النقيب محمد زغيب
المقالة أدناه وردتنا من منفذية بعلبك بعد أن حصلت عليها من الأمين الراحل علي شرف الدين، وهذه أوسع تغطية عن سيرة الرفيق الشهيد محمد سعيد عقل زغيب.
الرابعة بعد ظهر الجمعة 14 أيار 1948، رن جرس الهاتف في منزل علي بيشاني في طرابلس. على الخط صوت جندي:
– الملازم أول محمد زغيب يود التكلم مع زوجته.
هرع علي ينادي ابنته الحبلى كي تكلم زوجها. وما إن أخذت السماعة حتى جاءها صوته عاشقاً لهيفاً:
خاسينتا 1 كيف تشعرين؟
لا جديد. ولست أشعر أنني سأضع المولود اليوم.
إذا شعرت بآلام المخاض اتصلي بي فأحضر حالاً. الوضع اليوم على الجبهة هادئ. ويمكنني أن أترك لبعض الوقت فأجيئك إلى طرابلس كي أرى مولودنا الجديد. انتبهي إلى حالك يا خاسينتا. أحبك كثيراً. وانتظر خبراً منك.
أقفلت خاسينتا الهاتف، شاعرة بنبض الجنين في أحشائها، وبحب زوجها يغمر قلبها الطري، هي ابنة العشرين ربيعاً، والمهيأة أن تصبح أماً للمرة الثالثة، بعدما ولدت بنتاً لم تعش سوى ستة أشهر، ثم صبياً توفي في يومه الثالث.
ودخلت غرفتها ضارعة إلى الله أن يجعلها تضع هذه المرة مولوداً يعيش كي يفرح به والده الضابط البطل.
في حوالى العاشرة ليلاً، كان علي بيشاني يحمل ابنته إلى مستشفى عبد الوهاب في طرابلس المينا بعدما ازدادت عليها آلام الوضع. ومع انتصاف الليل 14-15 أيار ، كانت الدكتورة مي عبدالله سعاده تجري عملية التوليد وتحمل على زنديها بنتاً صرخت صرختها الأولى في هذه الحياة، كما لتنادي والدها الضابط على الجبهة.
في هذه اللحظة نفسها، عند انتصاف الليل، استيقظ الملازم أول محمد زغيب على صوت مساعده:
سيدي ابتدأت المعركة. العدو فاجأنا بهجوم صاعق.
وبالسرعة المطلوبة لصد الهجوم، كان الضابط البطل يعطي أوامره ويدير المعركة. غير أن هذه لم تكن متكافئة القوى: شعر «الإسرائيليون» أن في المالكية قوة مقاتلة، على رأسها ضابط غير عادي، فجيّشوا لمعركتهم جحافل مؤللة وراجلة، وهجموا بضراوة وشراسة.
السادسة صباح السبت 15 أيار: استيقظت خاسينتا لتعي أنها صارت أماً لطفلة، وكان أول ما تبادر إلى ذهنها: «يجب أن نخبر محمد».
وفي السادسة صباح السبت 15 أيار: كانت رصاصة تستقر في صدر محمد، فيسقط مضرجاً بدمائه.
العاشرة من ذلك الصباح، فيما مستشفى عبد الوهاب طرابلس يستقبل المهنئين بالمولودة الجديدة، جاء الخبر عن الجبهة: محمد أصيب، حالته تدعو إلى القلق، وهو في مستشفى صور.
سرى الخبر صاعقاً بين الحضور، وكان الهمس يتردد واحداً:
لا تخبروا خاسينتا، لا تفسدوا عليها فرحتها بمولودتها الجديدة.
بعد ساعتين، كان علي بيشاني يقف الى جانب سرير صهره محمّد في مستشفى صور. وإذا بالضابط المصاب يبتسم من بين أوجاعه:
أهلاً عمي، في وجهك خبر.
بنت يا محمد، خاسينتا ولدت بنتاً.
الحمد لله، سنسميها جهينة. لو جاءنا صبي كنت سأسميه جهاد. سلم لي على خاسينتا، ولا تقل لها إنني مصاب عساي بعد أسبوع أتعافى أكثر وأجيء إلى طرابلس، أقبلها، وأرى جهينة.
بعد أسبوع، لم يذهب محمد فرحاً إلى طرابلس ليرى خاسينتا، إنما هي التي جاءت مفجوعة إلى مستشفى صور، تلقي النظرة الأخيرة على زوجها الضابط الشاب الذي أغمض عينيه إلى الأبد الجمعة 21 أيار ، قبل أن يتسنى له إلقاء النظرة الأولى على ابنته التي ولدت يوم أصيب.
عصر الأحد 23 أيار، كان مأتم مهيب بكت فيه بلدة يونين البعلبكية ابنها الشهيد، وبكاه معها كل من عرفه، أو سمع عنه، أو عن مزاياه التي كانت فريدة بين الرجال.
كئيباً كان ذاك النهار الربيعي، شمسه حزينة خريفية تمطر كآبة على سهل البقاع.
وراحت يونين الأم تتذكر الأسطر الرئيسة من حياة فقيدها الذي تشيّعه وهو لم يبلغ الرابعة والثلاثين. تتذكر ولادته مع اندلاع الحرب العالمية 1914 ، للشيخ عقيل زغيب زعيم يونين وحكيمها. وتتذكر نشأته بين أخويه نجيب ونايف، حتى إذا انقصف الأول في ريعان الربيع، بقي نايف علامة مميزة في النزاهة والشرف.
ويكون محمد نبيهاً منذ طفولته، فيلتحق بمدرسة المطران في بعلبك، ثم بالمدرسة الوطنية في عالية، فالكلية العلمانية في بيروت. وفي المدارس الثلاث، برز متميزاً في علاماته وأخلاقه.
كان في الثالثة والعشرين 1937 يوم دخل المدرسة الحربية، متخرجاً منها بعد سنتين 1939 مرشح ضابط.
بدأ مهماته العسكرية بدينامية لافتة. وإذ عين القيادة ساهرة على عناصرها، رقّته 1941 إلى رتبة ملازم. وفي طرابلس، حيث كان يسكن قريباً من موقع خدمته في نقطة العبدة الحدودية، تعرّف إلى الفتاة خاسينتا بيشاني 15 سنة ابنة صاحب البناية التي استأجر فيها شقته، فهام بها ولم يلبث أن تزوجها أواخر 1942 .
كان قائداً لموقع الدامور حين اعتقلت سلطات الانتداب رئيس الجمهورية بشارة الخوري وصحبه في قلعة راشيا تشرين الثاني 1943 . فاتصل الضابط النبيل محمد زغيب بحكومة بشامون الوطنية واضعاً نفسه وجنوده في خدمتها. وحفظ له القادة اللبنانيون هذه البادرة، فلم يكد استقلال لبنان يعلن، حتى أعلنت قيادة الجيش ترقية محمد زغيب إلى رتبة ملازم أول 1944 . وينال في 22 تشرين الثاني 1945 وسام الجهاد اللبناني.
1948: تندلع الحرب الفلسطينية، ويتم تعيين الملازم أول محمد زغيب ضابط ارتباط في القيادة العامة للجيوش العربية. غير أن دمه الثائر أبى أن يبقيه إدارياً في مكتب. شعر بالحاجة الجارفة إلى الالتحاق بالجبهة مع رفاقه. قدم استقالته من وظيفته الإدارية، وتطوع 12 نيسان 1948 لقيادة سرية من المقاتلين المتطوعين مثله، فخاض معارك مشرفة انتصر فيها على العدو، وأبرزها أول أيار 1948 معركة الهراوي التي احتل فيها المواقع الأمامية على رغم صعوبة المهمة. ولمع نجمه بين رفاقه الأبطال في جيش لبنان.
يندهه الواجب إلى المالكية، فيلبي.
الخميس في 13 أيار يعانق في طرابلس زوجة حبلى تنتظر الوضع بين ساعة وساعة، يودعها وفي عينيه أملان كبيران: أن يشهد مولوداً له، وأن يسجّل في المالكية انتصاراً جديداً لجيش لبنان البطل.
وفيما ابنته، صباح 15 أيار ، تعيش الساعات الأولى من حياتها في مستشفى طرابلس، كان هو يعيش الساعات الأولى من معركة المالكية.
النائب اللبناني في ما بعد معروف سعد، روى هذه المعركة في مذكراته، وكان يومها في مطلع شبابه:
«أتذكر روح قائدي وأخي ورفيق جهادي الشهيد النقيب محمد زغيب. كان لقائي به، بعد الدراسة، في ربيع 1948، وجحيم المعركة في أرض فلسطين ينذر بكارثة مروّعة. كنا في جنوبي لبنان على مرمى حجر من أرض المعركة. وتجمّع الفدائيون من لبنان: من بعلبك والشوف وقرى الجنوب وصيدا، يرفضون تقسيم فلسطين. وكنّا يومها في حاجة إلى من يقود جموع الفدائيين في أرض المعركة. والتقينا الملازم أول محمد زغيب الذي استأذن قيادة الجيش اللبناني للقيام بهذه المهمة. ثم انتقلنا مع البطل إلى أرض المعركة، وخضنا مع العدو معارك ضارية كبّدناه فيها خسائر كبيرة.
اتخذ البطل مركزاً لقيادته في المالكية قرية حدودية قريبة من عيترون اللبنانية . وبعدما هال العدو ما كبدناه من خسائر، قرر ضباط العدو الانتقام بشراسة وضراوة وحشيتين من الفرقة اللبنانية وقائدها الشجاع، فهيأوا هجوماً كبيراً خاطفاً على المالكية، وزحفوا علينا ليلة الخامس عشر من أيار. تنبه حراسنا الشجعان ودافعوا ببسالة، ووزع القائد جنوده بحكمة وإحكام. لا أزال أذكر الشهيد علي فرج، وكان متطوعاً معنا وهو في الخامسة والسبعين من عمره، يضحك كلما أصاب إسرائيلياً وأرداه، ويقول لي: «اشهد يا معروف… هذا واحد… اثنان… ثلاثة…» حتى أردى
منهم سبعة، ثم أصابته رصاصة أسكتت مدفعه، فاقتربت منه ورأيته قد نام على مدفعه مبتسماً من سقوطه شهيداً في ساحة المعركة.
كان ذلك نحو السادسة صباحاً. وفيما أنا واقف قرب جثة علي، سمعت صوتاً ينهرني:
معروف، خذ مكانك، أنا ذاهب من هنا.
التفت ورائي فإذا به القائد الحبيب يترك مركز قيادته، مدفعه في يده، ويذهب ليأخذ مكانه بين الجنود. خفت عليه، هرعت أقنعه بالعودة إلى مركز قيادته وألّا يعرّض حياته للخطر فنحن في أقصى الحاجة إليه. لكنه لم يستمع إلي.
ولم يمر الوقت حتى أصابته رصاصتان من نوع «دمدم»: أولى في رأسه قرب الدماغ، والأخرى في صدره جهة القلب، مزّقت صورة لزوجته كان يحتفظ بها قرب قلبه. لم أستطع سحبه من أرض المعركة. عرضّت أن أحمله وأذهب به، فرفض. قال لي: «هيّئ لي مسدسي، إذا داهمنا العدو هنا، أطلق رصاصة على رأسي فلا يبلغونني إلا ميتاً. الضابط اللبناني يموت قبل أن يستسلم للعدو». واختبأنا على البيدر وراء القش وقتاً طويلاً وهو ينزف بشدة ولا يبدو عليه الضعف، إلى أن خارت قواه.
ومع ساعات الهدنة الأولى، حين جاءت قوة لنقله إلى مستشفى صور، فتح عينيه المتعبتين وقال: «لا تتركوا المالكية، احتفظوا بها. لا تسجلوا عاراً على فرقة كنت أقودها».
وإلى مستشفى صور، كانت القيادة، عن طريق النبطية، ترسل «الدم» مرات عدة في اليوم الواحد أملاً بإنقاذ حياته.
حين زرته بعد ثلاثة أيام، علمت أنه رزق بنتاً في طرابلس. وخلته سيحدثني عنها. لكنه بادرني أول دخولي عليه:
معروف… أما زالت المالكية معنا؟
وحين هززت رأسي «نعم» أغمض عينيه وارتسمت على شفتيه بسمة ارتياح. وعلمت أن تلك الكلمات كانت آخر ما نطق به، قبل أن يسلم الروح بعدها بيومين».
جميع هذه الصور، مرت ببال يونين وهي تودع ابنها عصر ذاك الأحد الحزين، وعلى نعشه وسام الحرب ووسام فلسطين.
وكرمت قيادة الجيش اللبناني شهيدها البطل، فأصدرت أمراً بترقيته إلى رتبة نقيب ابتداءً من 15/8/1948، وفي 25 أيار 1948: صدر عن قائد الجيش فؤاد شهاب «أمر عام رقم 1» يمنح بموجبه وسام الأرز من رتبة فارس إلى الرفيق الشهيد محمد زغيب.
وأطلقت القيادة اسمه على ثكنة النهر الجعيتاوي وفي صيدا، وعلى إحدى بنايات المدرسة الحربية في الفياضية. كما أطلقت اسمه على دورة الضباط المتخرجين عام 1949، وألقى رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري يوم التخريج خطاباً، فيه: «أيها الضباط، تحملون هذا العام اسم محمد زغيب، الذي خلّف ذكراً أبدياً أنتم كفيلون بإحيائه. فقد ترك مثلاً أبلغ من أن تتناوله أيدي النسيان إذ جعل من التضحية الكبرى أمثولة لكم من بعده فسيروا على هدي هذا النور بالواجبات الجديدة الملقاة على عاتقكم».
قيلت في الشهيد البطل مراثٍ كثيرة شعرية ونثرية يوم مأتمه.
فيما بعد أقامت له «لجنة إحياء ذكرى النقيب محمد زغيب» مهرجاناً تأبينياً كبيراً في صالة سينما روكسي- بيروت في 1/11/1955، شارك فيه: قيادة الجيش، بكلمة ألقاها المقدم حماد، الشيخ عبدالله العلايلي، النائب لويس أبي شرف، الدكتور سليم حيدر قصيدة ، وجامعة آل زغيب.
وأقيم في يونين مهرجان تأبيني له في الفترة نفسها، بكلمات من: الأديب سعيد تقي الدين، موسى زغيب، بولس أسعد الشرتوني، وميشال بشاره زغيب.
يفيد الرفيق يوسف برو بعلبك أن نعش النقيب الشهيد وضع عند وصوله في السراي الحكومي في بعلبك، وفي ساحتها أقيم له حفل خطابي تحدث فيه نائب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي فضلو ابو حيدر، ومنفذ عام بعلبك الأمين مصطفى عبد الساتر. الذي هاجم السلطة بعنف، وجرّاء ذلك منعت السلطات اللبنانية الأمين مصطفى من إلقاء كلمة في اليوم الثاني، عند تشييع الرفيق الشهيد في بلدته يونين.
ويضيف أن من بين الذين تكلموا العميد في كلية الآداب لاحقاً، الدكتور هاشم حيدر.
الرفيق المحامي نعمة حمادة كان من الذين تطوعوا للقتال في «معركة المالكية» وصودف أنه كان على مقربة من الرفيق الملازم محمد زغيب وشهد إصابته، وبالتالي يشرح مشاهداته التي رواها في ما بعد ونشرت في الجزء الأول من كتاب «الخالدون سير شهداء الحركة السورية القومية الاجتماعية».
بعد أن يشرح الرفيق نعمة، وكان طالباً في القسم الثاني من البكالوريا اللبنانية عن حماسه، وكثير من أترابه للاشتراك في معركة فلسطين، يروي كيف توجه وزميله محمد علي الرز، فيما تخلف التلامذة الآخرون، إلى كاراج بنت جبيل في بيروت، وصولاً إلى البلدة الجنوبية، فالالتحاق بالملازم محمد زغيب وقد سمع عنه وعرف أنه من بلدة «يونين» وعلى رأس قوة من المتطوعين في جيش الإنقاذ. في المالكية اجتمع الرفيق نعمة حمادة بالملازم زغيب الذي رحب به لمعرفته بأهله وعائلته، مبدياً إعجابه بالطالب صغير السن الذي لم يسبق له أن حمل السلاح، ومع ذلك يغادر مدرسته وبيته للالتحاق بجيش الإنقاذ. إلا أن الملازم زغيب راح يثني الرفيق نعمة عن البقاء، بخاصة وهو كان يترقب معركة قريبة، فلم يجد منه سوى المزيد من الإصرار.
في تلك الغرفة الرابضة على مشارف المالكية حيث استضافه الملازم زغيب، والذي يمتد أمامها منبسط من السهل هو عبارة عن هضبة منحدرة ينتهي عند بلدة «النبي يوشع» الفلسطينية، سهر الرفيق نعمة مع الملازم زغيب يستمع إلى بعض آرائه في السياسة والعائلات اللبنانية، يضيف الرفيق نعمة حمادة: «نمت ليل المالكية نصف النوم، فقد كنت بين النائم واليقظان تتردد في نفسي عبارات الملازم محمد زغيب، كان يدخل بين الحين والآخر أشخاص إلى الغرفة، وأسمع أصواتاً لا أتبين مصدرها. وفجأة أفقت على الرصاص يلعلع قريباً جداً، فقمت مذعوراً، ودخل علي السائق محمد وأبلغني أنه يجب أن أبقى في مكاني لأن المعركة قد بدأت، واليهود صاروا داخل البلدة. انهلع قلبي، ولكنني تماسكت لأدلل على أني جدير بخوض معركة حربية. كان الصباح قد بدأ ينبلج، وخيوط الشمس تكشح العتمة وتعطي الدنيا لوناً رمادياً غامقاً، ثم لوناً فضياً ثم أطلت بأشعتها الذهبية، فإذا باليهود يتمترسون على سطوح البيوت، وكانت أصواتهم تلعلع: «قادومي… قادومي»، أي إلى الأمام… إلى الأمام، والمجاهدون يتسابقون في التصدي لهم بين البيوت والأزقة والمنعطفات. خشيت أن يحتل اليهود البلدة ويأخذوني أسيراً إذا ما بقيت قابعاً أتطلع إلى المعركة الدائرة من ثقوب الباب وشقوق النوافذ، فخرجت من البيت. وكانت الساعة قد قاربت العاشرة والعراك محتدم، والبعلبكيون، وأقولها بكل اعتزاز ولا يقلل هذا القول من قيمة أحد، يستبسلون ويترامون على الموت واحداً إثر الآخر. لقد نسيت ما أنا فيه. ومضيت إلى الجلّ المجاور للبيت، وكان جلاً مشرفاً على البلدة وعلى السهل المنبسط أمامها، وفيه بعض شجيرات التين والصبير، وأشد ما كانت دهشتي وهلعي عندما رأيت الملازم محمد زغيب مسنداً ظهره إلى حائط قرب «صبيرة» وبندقيته بيده، والدم ينزف من صدره وقميصه وأكمامه، صرخت: محمد… محمد، هل أصبت؟ فأشار إلي بإصبعه أن أصمت. فقلت له وقد صرت بقربه: تعال أحملك أو اتكئ علي، فقال: أنت لا تستطيع حملي، ولكنك تستطيع أن تستدعي أحداً من الرجال لينقلني من هنا، ومن عساي أستدعي وأنا لا أعرف أحداً ولا مكان أحد. بقيت برهة أتأمل ثم سرت عدة أمتار، وإذ بثلاثة من المجاهدين يهبطون الجبل متلبدين واحداً إثر الآخر، ومن بينهم محمد سائق الملازم زغيب، وقبل أن أدلهم على مكان الملازم كانوا يهجمون نحوه ليحملوه على أيديهم وظهورهم، فكنت أشارك في النظر وفي الاهتمام بحمل بعض جنادات الخرطوش، فوجدتها جميعها فارغة. ساروا بجانب الحائط، وسرت وراءهم كالمسحور، وفي ظني أنهم يعودون به إلى البيت الذي نمت فيه، ولكنهم راحوا إلى ناحية أخرى وما إن وصلوا إلى طريق رملية حتى كانت سيارة جيب تأتي لنجدتهم، صعد إليها الملازم محمد وأصعدني معه، وقال لسائقه محمد ولمن كان معه هذه العبارة التي لا أنساها: «ابقوا أنتم هنا حتى أعود… ولا ترموا سلاحكم». فكان سائقنا هذه المرة شخصاً أجنبياً، علمت في ما بعد أنه يوغسلافي الجنسية 2 ، قليل الخبرة بالزواريب فأخذ الملازم محمد يرشده بإصبعه من دون كلام حتى سلكنا الطريق الرئيسية إلى بلدة «يارون» وهناك واكبتنا سيارة تابعة لقوات العقيد أديب الشيشكلي إلى مستشفى بنت جبيل، حيث أجريت للملازم محمد الإسعافات الأولية. ومن بنت جبيل انتقلنا في سيارة جيب أخرى بقيادة محمد سائق الملازم زغيب يصحبنا الأستاذ إبراهيم بزي، إلى مستشفى الدكتور سعد الله الخليل في صور.
كانت إصابة الملازم محمد في صدره: رصاصة واحدة اخترقت ثديه الأيسر عند جيبة القميص فثقبت تلك الجيبة وثقبت معها بطاقة الهوية وورقة نقدية بمئة ليرة لبنانية واحدة، لم يكن يملك سواها، كانت موضوعة بالجيبة.
من الرفقاء الذين شاركوا في «معركة المالكية»، الأمين ديب كردية، والرفقاء محمد مصطفى العاشق، أحمد مهدي نزهة، محمد حسن طي وقاسم العفي الذين كانوا التحقوا بالجيش اللبناني في الفترة 1946-1947.
ورد في كتاب «مختارات في المسألة الفلسطينية» الصادر عن دار فكر للأبحاث والنشر «أن الرفيق إبراهيم جورج سالم من مديرية المنصف المستقلة التحق بفوج اليرموك الرابع، السرية الثانية من الفصيل اللبناني المدافع عن عكا. وقد اشترك في معارك صفد، المالكية، وقدس، وله من العمر 22 سنة وقد أبلى في المعارك بلاء كثيراً».
قرية المالكية
تقع شمال مدينة صفد، على بعد نصف كيلومتر من الحدود اللبنانية الفلسطينية. كانت حتى عام 1923 تابعة للبنان. أنشئت المالكية في جبال الجليل الأعلى فوق سفح يطل على الغرب ارتفاعه 690 متراً عن سطح البحر. قام اقتصاد المالكية على الزراعة وتربية الماشية، واعتمد السكان في الشرب والأغراض المنزلية على مياه الأمطار التي كانت تجمع في الآبار.
بعد أن احتلها اليهود وشردوا سكانها ودمروها أقاموا عام 1949 كيبوتز «ملكياه» جنوب شرق القرية.
عن الموسوعة الفلسطينية الجزء الرابع
هوامش:
1 زوجة الشهيد زغيب، وهي أرجنتينية المولد.
يفيد الرفيق نعمة حمادة عن معركة المالكية، أن الفرقة اليوغوسلافية شاركت في المعركة مدفوعة بحميّة الدين، وساهمت بفعالية في نقل الخسارة الى نصر في اليوم التالي بعد أن كان الصهاينة احتلوا القرية في الليل.
ويضيف أن إصابة الرفيق محمد زغيب لم تكن بليغة بدليل أنه سار على قدميه بعد أن تم سحبه من موقع المعركة، برفقة من جاء لنجدته، وكان يتكلم ويصدر الأوامر. ويذكر انه اصيب في المستشفى بالتهابات، ولو أن المستشفى كان مجهزاً، لما كان فارق الحياة، برأيه.
هل هي الصدف أن يكون الشهيد الوحيد في معركة الاستقلال في بشامون، رفيق قومي اجتماعي سعيد فخرالدين وأن يكون الشهيد الوحيد في معركة الدفاع عن العلم اللبناني المرتفع فوق البرلمان، رفيق قومي اجتماعي حسن عبد الساتر وأيضاً أن يكون الشهيد الأبرز في «معركة المالكية» قائد المفرزة اللبنانية في جيش الإنقاذ، رفيق قومي اجتماعي محمد سعيد زغيب .
طبعاً لا، هي العقيدة القومية الاجتماعية التي تفجر مكامن البطولة، وتفولذ الإرادة، وتجعل القومي الاجتماعي يهب ذاته في سبيل أمته وحزبه.