الفراغ الرئاسي… كيف نتعامل معه؟
عبد الله خالد
حين يتعرض بلد ما خلال ربع قرن للفراغ في سدة رئاسة الجمهورية مرتين، ويستعد لإستقبال فراغ ثالث، فهذا يعني أنه لم يرتق بعد إلى مستوى الدولة، بل بقي مجرد سلطة تتحكم فيها شبكة من أصحاب المصالح ارتضت أن تكون أداة في يد وصاية خارجية تنتقل من دولة لأخرى، مع ما يعنيه هذا من سيادة شكلية واستقلال منقوص وإرادة وطنية مغيبة جعلت البعض يقول إنّ ولادة الكيان اللبناني كانت مجرد خطأ تاريخي لا بد من تصحيحه، ودفعت البعض الآخر إلى التبشير بوطن قومي طائفي على غرار ما أكده وعد بلفور. ظهر التباين في وجهات النظر حول حدود الكيان عدم الحماسة لضم الجنوب، رفض ضم وادي النصارى الذي يشكل أغلبية لطائفة معينة، القبول بضم الأقضية الأربعة والتعامل مع أبنائها على أنهم رعايا من الدرجة الثانية… ، وحول الهوية حين وضعت اللبنانية في وجه العروبة وضُخّم دور الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية وبالتالي القومية. واستمر الارتباط بمراكز الوصاية السفارات بدلاً من الاندماج في هوية وطنية جامعة عبر المواطنة يتم التفاعل من خلالها والتوافق على مرتكزات، لبلورة ثوابت وقيم تشكل ما يسمى raison d etat للدولة تجعل السيادة حقيقية والاستقلال كاملاً والإرادة الوطنية واضحة. وباعتبار أننا لم نصل بعد إلى مؤشرات توحي إمكان حصول ذلك التوافق، فإن هذا يعني أن لبنان يعاني خللاً بنيوياً يعوق إمكان انتقاله من مرحلة سلطة المزرعة إلى مرحلة الدولة السيدة، بكل ما تعنيه من تأكيد على الحرية والسيادة والاستقلال والارادة الوطنية، واحترام مكونات الوطن كلّها والتعامل معها على قدم المساواة، والسعي إلى تكريس القانون وإقامة المؤسسات، واحترام إرادة الشعب في تقرير مصيره بمعزل عن أي وصاية. ومعالجة هذا الخلل لا تتم بترداد الشعارات الخالية من أي مضمون، إنما بالعمل الجاد، وبمعزل عن القوى التي كرسته منذ حكم القناصل إلى اليوم. إن السؤال الذي يفرض نفسه هو الآتي: كيف نتعامل مع الفراغ في سدة الرئاسة وهل نكرر ما حدث عام 1988 وعام 2008 حين رجحت كفة الفرض الخارجي على كفة المصلحة الوطنية، أم نفكر بخيار آخر ينهي إمكان حصول فراغ رئاسي جديد؟
حين طرح مورفي عام 1988 شعار «مخايل الضاهر أو الفوضى» لم يتوقع أن البعض سيفضل الفراغ ويختار الفوضى بكل ما تعنيه من تدمير لمنطق الدولة وعدم احترام للمواعيد الدستورية لمصلحة حسابات شخصية خاطئة. وهكذا أصبح الفراغ أمراً طبيعياً بعدما تغلبت حسابات سلطة المزرعة على حسابات دولة القانون والمؤسسات وبدلاً من السير في طريق لبننة الاستحقاق تم اختيار الطبخة الإقليمية-الدولية بكل ما تعنيه من تغليب للمخطط الخارجي على الخيار الوطني الداخلي. إننا اليوم أمام فرصة تارخية يمكن استغلالها لبلورة خيار لبناني يقلص الخيار الخارجي ويضع بذور مقومات خيار داخلي يقدم المصلحة الوطنية ويستند الى الدستور الذي أقر في الطائف ويعمل على تطبيقه، خاصة وأن التدخل الخارجي يتم في الكواليس معطياً الفرصة لبلورة كل المواقف الداخلية المحلية ليبني عليها الموقف الخارجي المنطلق من المصلحة الإقليمية الدولية البعيدة تماماً عن المصلحة الوطنية العليا.
أوشكت المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية على الانتهاء ما يوحي أن قصر بعبدا سيكون شاغراً في الخامس والعشرين من أيار، وبالتالي فإن السؤال هو: كيف يمكن أن نتعامل مع هذا الوضع وهل سيكون هناك فراغ دستوري فعلا؟ لا بد بدءاً من العودة إلى وثيقة الطائف التي انبثق منها الدستور اللبناني على صعيد السلطة التنفيذية، إذ نصت المادة 17 على أن السلطة الإجرائية تناط بمجلس الوزراء الذي يتولّاها وفقاً لأحكام الدستور. ونصت المادة 49 على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن ويسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور ويترأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء. ونصت المادة 62 على أنه في حال خلو سدة الرئاسة، لأي علة، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء. ونصت المادة 74 على أنه إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو لسبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون، واذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الإنتخابية من دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الإنتخابية. ونصت المادة 75 على أن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة ناخبة لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة من دون مناقشة أو أي عمل آخر.
حين بدأت في فرنسا نسبة لا بأس بها من الشعب الفرنسي تعترض على برنامج الرئيس شارل ديغول، اعتبر أن من واجبه طرح برنامجه ليستفتي الشعب عليه وتعهد بالاستقالة من منصبه إن لم ينل برنامجه نسبة 65 في المئة في الاستفتاء، وعندما لم يحصل على تلك النسبة استقال فعلاً وشغر منصب الرئاسة الذي تولاه رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي ألن بوير لفترة انتقالية عمل خلالها على وضع قانون انتخابي وإجراء انتخابات برلمانية وصولاً إلى انتخاب بومبيدو لرئاسة الجمهورية، ولم يتوقف عند حدود تصريف الأعمال على صعيد الحكم والتشريع. وبالعودة إلى لبنان وانطلاقاً من أن مجلس الوزراء هو الذي يجسد السلطة الإجرائية وباعتبار أن صلاحيات رئيس الجمهورية تناط به وكالة إذا خلت سدة الرئاسة، واستناداً إلى أن الحكومة الحالية تمثل القوى الأساسية في البلاد فإنه يفترض بها أن تتخذ قراراً جريئاً إذا لم ينتخب الرئيس العتيد، بإقرار قانون جديد للانتخاب وفق معايير الطائف وعلى أساس النسبية وإقرار ما تبقى من بنود الطائف والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة والتخلي خلال الفترة الانتقالية عن منطق تصريف الأعمال والانتقال إلى مرحلة تنفيذ الأعمال حفاظاً على مصالح الناس وحرصاً على عدم شل الدولة ومؤسساتها. أما مجلس النواب فيفترض به ألّا يعمل على التمديد لنفسه مرة أخرى وإنّما أن يتحول، بالإضافة إلى كونه هيئة ناخبة، إلى هيئة تشريعية تقر قانون الإنتخاب الجديد وتعطي الشعب حقه في تقرير مصيره وإلّا فإنه سيكون مسؤولاً عن الاستمرار في سياسة اعتبار الانتخابات الرئاسية ملفاً إقليمياً- دولياً وليس ملفاً وطنياً محلياً. وإزاء الشك في إمكان قيام الحكومة ومجلس النواب بالدور المناط بهما، بموجب الدستور لإنقاذ البلاد من التداعيات السلبية للفراغ الرئاسي، خاصة أن ما يجري في الكواليس يختلف جذرياً عما يقال في العلن، لا بد من توفير الأجواء الملائمة للإقدام على خطوات جريئة تسهل عملية إجراء الإستحقاق الرئاسي وتقلص مدة الفراغ. وهذا يحتاج إلى تشكيل قوة شعبية ضاغطة تشجع على التخلص من منظومة ازدواجية المعايير التي يفرضها التقلب في المواقف وفقاً للمصالح وليس انطلاقاً من قيم وثوابت تفرضها المصلحة العامة تعزز التوازن المطلوب بين مكونات النسيج الإجتماعي. إن عدم التفاؤل بإمكان حصول نقلة نوعية تسمح بالتعامل بشكل مختلف واستثنائي مع الاستحقاق الرئاسي يجعلنا نطرح صيغاً جديدة كالدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي ينتج منه عقد إجتماعي جديد يؤكد على أسبقية المواطنة على الخيارات الهامشية الأخرى وعلى أهمية تحقيق التوازن بين مكوّنات الوطن كافة ضمن إطار يحفظ السيادة والاستقلال ويؤمن الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ويشدد على الهوية الجامعة التي تقلص دور الهويات الفرعية من دون أن تلغيها ويرفض الشحن الطائفي والمذهبي ويركز على التكامل بين ما هو وطني- قومي واقتصادي-اجتماعي-مطلبي ويهتم بالملف الاقتصادي- الاجتماعي وصولاً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وإذا كانت مفردة مؤتمر تأسيسي تشكل حساسية لدى البعض مثلما شكلت في السابق مفردة علمانية واستبدلت بعبارة مدنية، فإنه يمكن التوافق على مفردة أخرى تلغي تلك الحساسية وتركز على الهدف القائم على الفصل بين السلطات وتوازنها، وعلى وضع جميع المخاوف والهواجس أمام المتحاورين لإيجاد حلول عملية لها تعزز الوحدة الوطنية وتزيل التناقضات التي تهددها وتعوق السلم الأهلي في البلاد.
المطلوب اليوم تقليص فترة الفراغ الدستوري والوصول إلى رئيس يوفر المناخ الملائم لتحقيق الحل المنشود لمعضلات الوطن وليس مجرد رئيس لإدارة الأزمة، رئيس يملك حيثية وطنية ويكون منحازاً إلى الشعب وقضاياه العادلة وليس مجرد موظف لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، رئيس يرفض السيادة الشكلية والاستقلال المنقوص والإرادة الوطنية المغيبة ولا يخضع لإملاءات الخارج ويقدم مصلحة الوطن والأمة على أي مصلحة أخرى ويعتبر معالجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية أولوية مطلقة.
المطلوب اليوم أن نتوافق على خطة طريق تشكل الحدود الدنيا لخطوات تنسج مستقبل لبنان وتطرح قيادات جديدة وفاقية ميثاقية عابرة للطوائف والمذاهب وتملك الكفاءة والصدقية وتكون بعيدة عن الطبقة السياسية المتمسكة بالنظام الطائفي وتعيد بناء الثقة المطلوبة بين المواطن والدولة وتعمل على بناء المجتمع المدني الديمقراطي العادل. وعندئذٍ نستطيع أن نقول بثقة إننا بدأنا الخطوة الأولى في مسيرة بناء لبنان العربي المقاوم.
عضو الأمانة العامة للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي