ماذا بعد تبادل التحدي بين موسكو وواشنطن؟
حميدي العبدالله
تبادلت واشنطن وموسكو التحدّي في الأيام القليلة الماضية عبر خطوات اتخذت من قبل الطرفين أعادت إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، في ما بدا رداً على قرار واشنطن إرسال أسلحة وعتاد حربي بما فيه الدبابات إلى حدود روسيا وإلى جمهوريات كانت تشكل في السابق جزءاً من الاتحاد السوفياتي في استونيا ولاتفيا وليتوانيا، أعلن الكرملين أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمَر بتزويد القوات النووية بأكثر من 40 صاروخاً متطوّراً قادراً على اختراق أيّ منظومة دفاع. هذه الخطوات التي تبدو حتى الآن وكأنها مجرّد سعي من موسكو وواشنطن للحفاظ على نفوذهما وردّ كلّ طرف على الطرف الآخر، هل تظلّ عند هذه الحدود، وهل تقتصر على العقوبات المتبادلة التي فرضها الطرفان أم أنّ ثمة احتمالاً لأن تتطور المواجهة بين البلدين العظيمين، وما هي طبيعة هذه المواجهة إذا سلك مسار العلاقات بين البلدين هذا المسار؟
واضح أنّ إيجاد تسوية تنهي الصراع على النفوذ بين موسكو وواشنطن أمرٌ في غاية الصعوبة إنْ لم يكن مستحيلاً. فروسيا التي خسرت نفوذها في مجالها الحيوي التاريخي في الفضاء السوفياتي وفي أوروبا الشرقية ومنطقة الأوراسيا في عقد التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والفوضى التي عاشتها طيلة عقد بكامله، ترى أنّ من حقها الطبيعي استعادة هذا النفوذ الذي يشكل لها في ضوء طبيعة العلاقات الدولية، ماضياً وحاضراً، مسألة وجود، فأمن روسيا القومي مهدّد ووحدتها القومية في خطر ما لم تستعد هذا النفوذ الذي وحده يؤمّن استقلاليتها، وضمان دورها الندّي في إدارة علاقاتها الدولية.
لكن في المقابل فإنّ الولايات المتحدة ترى أنّ استعادة روسيا لنفوذها في مجالها الحيوي سيكون على حساب مصالح الولايات المتحدة التي انتشر نفوذها في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وفي أوروبا الشرقية. ومن الصعب إيجاد حلّ وسط بين البلدين بالنسبة لهذه المسألة.
واضح أنّ استعادة نفوذ روسيا في هذه المناطق وحفاظ الولايات المتحدة على نفوذها فيها لن يتحقق عن طريق المنافسة السلمية و«القوة الناعمة» لأسباب عديدة ومتنوّعة، أهمّها أنّ طبيعة الصراع لا تحلّ إلا من خلال إقصاء طرف للطرف الآخر، وصعوبة إيجاد تعاون مشترك يعود بالنفع على الطرفين، هذه حقيقة العلاقات الدولية على امتداد التاريخ، ولا يمكن تغيير هذا القانون التاريخي عبر الأماني والرغبات.
اللجوء إلى القوة، بشكل غير مباشر في الصراع على النفوذ في هذه المنطقة، سيكون الخيار المرجّح على غرار ما حصل في أوكرانيا، وقد يتخذ شكلاً مباشراً بين روسيا من جهة وحكومات بعض دول المنطقة الموالية للغرب من جهة أخرى، على غرار ما حصل في جورجيا عام 2008، وسوف يلجأ الطرفان، الأميركي والروسي، إلى استراتيجيات تدمج بين «القوة الناعمة» وقدر من القوة العسكرية في صراع الردع المتبادل بينهما.
لن يظلّ الصراع بين واشنطن وموسكو محصوراً في منطقة الأوراسيا، بل سيمتدّ إلى أنحاء أخرى من العالم على قاعدة حاجة كلّ طرف إلى جمع أوراق عديدة لتعزيز وضعه في مواجهة الطرف الآخر، وهذا بدوره سيكون له انعكاسات حادة على مجمل العلاقات الدولية والمؤسسات الأممية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.