قالت له

قالت له: أنت لا تحبّني بمقدار حبّي لك، على رغم اعترافي بأنّك تهتمّ لأمري أكثر من اهتمامي بأمورك. لكن السبب يكمن في القدرات لا الغربة. فأنت أقدر على الفعل وأنا لا أملك إلا القول. فلا تظلم كلماتي بقوة أفعالك.

فقال لها: تربحين جولة الأقوال وأربح حرب الأفعال، لأنك بقوة القول صرت تصممين أفعالاً لا تحتاج إلى مقدرات، لكنّها تعبّر عن القدرة على القرارات. وأنت تواظبين على القول وأنا أواظب على الفعل. فما رأيك أن نتبادل؟ وأنا مستعدّ لأمنحك دفق قول لا ينضب في الحبّ ومن القلب، وأن تمنحيني أفعالاً تؤكد بقوّة قراراتك معنى كلماتك.

فقالت: أنت تريد أن تذهب بالخصوصية التي من دونها يلغي الحبّ من نحن ويجعلنا أشباهاً منسوخة ويصير عبثاً بحياتنا، ومصائرنا بلا مسؤولية وبلا سؤال إنسانيّ مشروع عن الغد.

فقال: الحب عندي جنون التماهي، أما الحب الذي يحكمه عقل البحث عن الحدود ويرسم سيناريوات وخرائط طريق للوجود، وخططاً للمسموح والممنوع، وخطاباً عن المصير المفقود، فأظنه جدير بالاهتمام، وربما يكون الأجمل. ولكلامك عنه وقع جميل، لذكاء وإرادة تكسر المستحيل، وتجمع ما لا يجمع. لكنني أعتذر لأنني أجهله، لأنني في الحبّ شريك الخسائر لا شريك أرباح. والحب الجميل الذي تصفين يعجبني لأنه بوليصة تأمين في الحياة لا حادث سير قاتلاً، فهو قادر على تحويل شراكة المصير والذوبان الأخير إلى أسهم شركة تنظمها العقود… انتظريني هنا قليلاً حتى أتعلم، وسأعود.

قالت له: الحبّ سعي أو مرحلة أو ذكريات؟

فقال: لكل حبّ صفة من هذه، فقبل أن يصير الحب ذكريات، يكون حبّ آخر قد صار سعياً، فلا يعيشان معاً إلا بعدما يصير أحدهما ذكريات، والثاني مرحلة. فقالت: ونحن أين؟

فقال: لكلّ من الحبيبين ساعة توقيت مختلفة.

فقالت: وساعتك؟

فقال: متأخرة عن ساعتك بحقبة، فإن كنت معي سعياً إليّ فأنا انتظار. وإن كنت مرحلة فأنا سعي، وإن كنت ذكريات فأنا مرحلة.

فقالت: وإن كنت ارتباكاً؟

فقال: إذاً أنا دعاء أن أكون غداً ذكريات جميلة.

فقالت: لكنك تبقى سعياً لا ينتهي.

فقال: السعي هنا للحفاظ على الذكريات. سعي وفاء وكلمة شرف، لا سعي الشوق والشغف. عندما نحبّ نجمّل أخطاء من نحبّ وأنانيته كي نراه جميلاً. هكذا كنت وسأبقى، وهكذا سيكون سعيك المقبل، وعندما نحفظ الذكريات ستقولين حسناً أننا توقفنا هنا، وأقول يبقى الجميل جميلاً.

قالت له: تتحدّث عن عظمة الحبّ الذي يربطنا، وحجم ما تختزن من عاطفة تندفع بقوّة تفوق شلالات نياغارا، وتعدني بأمور تفوق قدرة الخيال على التوقّع، وتربط كل شيء باستحقاقات ومواعيد. فهل تملأ الفراغ الفاصل بيني وبين حدوثها بكلمات الحبّ التي تؤنس وحشة الوقت وتحفظ القلب للدفء الآتي ودفق الحنان؟ فقال لها: الأفضل أن تختبري صبرك فيتعمد الحبّ بيننا بفضيلة الانتظار المتعب إنما الجميل.

فقالت: وهل تعرف أنّ الوقت يتكفّل إذا خلا من وهج الحنان بقتل جمال المرأة وأنوثتها، ويحوّل نعومتها إلى شيخوخة مبكرة؟ فهل تريدني أن أتلقّى جمال ما تحفظه في قلبك لقادم الأيام، وفي غيبك لما يشبه الأحلام، وقد أصبحت كومةً من حطب، أو امرأة من خشب، أو قد نهش قلبي العتب، واشتعل في دواخلي اللهب؟ فقال: ستستعيدين كلّ البريق والوهج عندما يحين وقت الوصال، ويتدفّق علينا الخير والجمال.

فقالت وقد ضمرت وتكوّرت: من يقدر على الأكثر يقدر على الأقل، وقد رضيت القليل فلا تحرمني نعمة الفرح في حاضري بوعد ما يخبّئ مستقبلي.

فتطلّع في عينيها وتمتم ما لم تفهم ومضى.

فقالت له وهي تحدّث نفسها: من يقدر على الكثير يقدر على القليل، ومن يبخل بالقليل لن يسعفه كرمه بالكثير. فالوعود والمواعيد مقتل الحبّ، وللحبّ عناوين عدّة، إما الآن أو لا شيء. ومضت ترفع غرّة شعرها عن عينيها لتنظر إلى نور الشمس.

قالت له: هل تنتظرني عند مفترق طرق قريب، لأن عليّ إنهاء ما بدأته للتوّ. فقال لها: أخشى أن تكتشفي أنني أنا من يحب إنهاءه، وتعودين بالاعتذار.

فقالت: أنا واثقة من العودة إليك، ولو تغيّرت بعض الشيء عليك.

فقال: وهل تثقين أنّ الحبّ سيعيدك؟ أم هو الوعد والالتزام؟

فقالت: الحب وعد والتزام.

فقال لها: سأنتظرك. لكنّ الحبّ سيثبت أقدامي لا الوعد الذي يسهل النكوث به إذا خفق لغيري أو لغيرك ما عندنا من قلب.

فقالت: المهم أنني عائدة وأنك ستنتظر.

فقال: المهم أن ثمة ما يشغلك عنّي، وأنك تبقين شغلي الشاغل. ومضى إلى الرصيف يمسك يده ويرسم عليها كلمات لا يفهمها، بلغة لا يعرفها. ومضت تتلفت نحوه بدمعة وهو لا يعلم بعد إلى متى عليه أن يوقن رحيلها، ويحزم كفّه ويمشي.

قالت له: عندما يباغتك الحبّ بعد حين، قاتلاً هدوء ما مضى من السنين، مبدّداً سكينة الروتين، ليتركك وحيداً في مهب ريحٍ عاتيةٍ نديّة، تحملك إلى أماكن اعتقدت أنها خُرافية. ثم يزلزل شغفٌ متقدٌ كلَّ ما بنيت من أفكار، وتتبخر بوجوده أعظم قناعاتك من الأسرار، فلا يبقى أخيار أو أشرار، ولا فرق بين ليل أو نهار. وتتلفت حولك خائفاً محتاراً، مراقباً تسلّل العشق إلى خريف العمر، ساقياً القلب من بعد قحط. تدرك حينئذ أنك خُلقت من جديد في عالمٍ كلّه غريب. بشره متساوون وأنت فيه المجنون، تملك أجنحة النسور و يحيط بك ربيع دائم مكلّل بالورود.

فاغفِر لي هذا الجمود والتقلب بين إقبالٍ وهروب، بين حزنٍ وحبور. رغبةٌ تدفعني إليك، يوقفها خوفٌ من برود.

نظر إليها وأجاب: حياتي كانت قبلك شجرةً لا تورق إلا لتخسر أوراقها. وتُقطع منها الأغصان. حياتي كانت حياةَ انتهاء، تحضيراً لموتٍ آت. لكنّ حبّك المشعّ من النظرات حوّل أحلامي إلى كائنات. أدخل النبض إلى عروقٍ متصحّرة، وفجّر منابع الحياة في كلّ خليّة. من دونك أنا لا أحد فمن تكونين لتجعلي الأرض صغيرة على شخصين، غارقةً برائحة الياسمين، وإلى روحي تنسابين كماء مَعين؟

يا صغيرتي لا تعتذري، ففي عالمك المجنون اثنان منّا، لا يعرفان إن كانا عاشقَين، مفتونَين، حقيقيَّين، أم شاخ بهما خيال الزمان!

رانيا الصوص

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى