عندما يطير الفينيق على الغاز
يوسف موصللي
من وسط الموت والركام، حيث لا أمل جليّاً أو رجاء واضحاً، عندما انهمك البعض بعدّ الخسائر، وانشغل البعض الآخر بمحاولة التقليل من المزيد، وحده صغير الفينيق بدأ يحبو قبل أن يبدأ بالطيران من وسط الرماد.
الأسطورة تقول ببعث جديد لهذا الطائر كل ألف عام، فبعد رحلته المضنية في الشرق البعيد، يعود إلى سواحل الفينيق كي يرقد ويموت احتراقاً قبل أن يبعث حيّاً من الرماد فينطلق مجدداً إلى الشرق.
أما الأسطورة بلغة اليوم فتقول إنّه بعد ألف عام على آخر نهضة شهدتها المنطقة عندما كانت عواصم مثل دمشق وبغداد تحكم أكثر من نصف العالم جغرافيّاً والعالم كله علماً وثقافة، حان الوقت لنهضة جديدة يتلهف لها الشرق الأوراسي بعد مدة لا بأس بها من إعادة حشد قوته وتنكين اقتصاده ونظرته الجديدة إلى عالم متعدد القطب. نهضة تولد مرة أخرى من سواحلنا المتوسطية حيث الكثير من النفط والغاز، حمولة الطائرة الجديدة للعالم.
على الهامش، معروف أن تسمية الفينيق إغريقية المنشأ، وتعني «الانبعاث الحي من الرماد» وكان يطلقها الإغريق على الكنعانيين والآراميين متعجبين كيف هم قادرون على النهوض مجدداً من كل محنة، بل يقدمون بنهضتهم إنجازات حضارية جديدة إلى العالم في كل مرة.
هذه المرة ستكون قيامة الطائر صعبة، بل شبه مستحيلة، لكن صعوده نحو السماء أمر حتمي، وكل ما نملكه هو المساعدة في إنضاج ما سينضج لا محالة. وهنا علينا أن نتذكر الأسطورة مرة أخرى حين تقول إن صغير الفينيق لن يولد إلا بعد ثلاثة أيام من احتراق أبيه ومن رماده فحسب.
لذلك، دعونا لا نضيّع الوقت غرقاً في تفاصيل المرحلة الماضية، باحثين عن حلول لمصائبها وعمرها عقود ومئات السنين، وهي نتائج تراكمية لاحتلالات سوداء كثيرة وآخرها الغزوات العثمانية والصهيونية والجاهلية.
لا نحارب اليوم حفظاً للحاضر ومعالجة للماضي بل صنعاً للمستقبل، مستقبل لا يتكرر فيه ماضٍ أليم تصدح فيه أوجاع إنسانية في أرجاء الكون، بل غد مشرق يتشكل فيه عالم جديد سيغير المجتمعات والاقتصادات، راسماً نهاية لعصر الحروب التقليدية وغير التقليدية، مطلقاً الصراع على الفكر الأفضل لقيادة العالم من دون قطب مهيمن أو أجندات جاهزة.
أدعوكم اليوم ألاّ تنتظروا طائراً أسطورياً فأنتم الأسطورة المتجددة إن أردتم، أو نهاية صفحة سوداء من التاريخ إن استسلمتم. نحن نقدم الكثير، فمنا من يعاني اقتصادياً، ومنا من هو محروم من عيش آمن وكريم، ومنا من يقدم حياته ثمناً للدفاع عن الوطن. ورغم أن ما ندفعه اليوم ذو كلفة باهظة إنما ليس ذلك شرطاً تلقائياً للانتصار، إذ لن يكون لتضحياتنا قيمة عظيمة إلاّ عندما تنصهر في مشروع واحد تصب فيه جميع الطاقات والرؤى السليمة والإرادة العظيمة. عندئذ فحسب تصنع الأسطورة من جديد على أيادي أهلها، باعثي طائر الفينيق.