القرار 1559 والطوفان

عصام الحسيني

إنّ الصراع اللامتناهي بين الأضداد، هو من الثوابت الأكيدة في حركة التاريخ، في كلّ وجوده. وتنطبق هذه الظاهرة على المجتمع الإنساني، كصيرورة مصاحبة لتطوّره ولانتقاله، من الحالة الفردية الخاصة، إلى الحالة الجماعية العامة.

وفي كلّ مراحل تطوّره، يخضع المجتمع الإنساني لكلّ أنواع الصراعات، ويكون دائماً عبر التاريخ، منطق الغلبة للقوى الفاعلة، وليس بالضرورة لمنطق الحق.

لكن إرادة الشعوب وتمسّكها بحقها، يعيد كلّ أو بعض ما خسرته أمام القوى الفاعلة الأخرى، وانْ كان هذا التوازن بين القوى غير متكافئ، وذلك عبر الاستفادة من القانون الدولي ما أمكن، كوسيلة قانونية يستفيد منها بالنظرية، القوى صاحبة الحق.

وفي ترجمة لهذا الواقع القانوني، نستعرض للقرار الدولي رقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 2/9/2004، والذي وضع لبنان تحت المجهر الدولي، وأصبحت القرارات الصادرة ذات الصلة، تتوالى بشكل غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، بحيث أن حجمها قد فاق بكثير، قدرة لبنان على استيعابها أو تجاوزها، على المدى الزمني المنظور.

فما هو موقف القانون الدولي من طبيعة هذا القرار؟ وما هي تداعياته القانونية والسياسية؟

في البداية نستعرض لأهمّ البنود التي وردت فيه وهي:

1 انسحاب كلّ القوات الأجنبية الباقية في لبنان.

2 الدعوة إلى حلّ ونزع أسلحة كافة الميلشيات اللبنانية وغير اللبنانية.

3 دعم إجراء عملية انتخابية حرة وعادلة في الانتخابات الرئاسية اللبنانية المقبلة، وفقاً للقواعد الدستورية اللبنانية، من دون تدخل أو تأثير خارجي.

في البداية ومن حيث المضمون، يمكن لنا من الناحية القانونية، أن نسمّي النقاط الثلاث بالإشكاليات الثلاث، وذلك لاعتراضها مع ما نص عليه القانون الدولي في الروحية وفي المواد.

وفي الشكل يتبادر إلى ذهننا، أنّ نزاعاً دولياً قائماً بين لبنان وسورية، مما أوجب تدخلاً لمجلس الأمن لحلّ هذا النزاع، الذي من شأنه أن يهدّد السلم والأمن الدوليين، كما ورد في الميثاق في المادة الأولي الفقرة 1.

فأين هي الأطراف المتنازعة في هذا القرار؟ وهل من شكوى مقدّمة إلى مجلس الأمن؟

في الواقع لقد أعطى القانون الدولي لمجلس الأمن، عبر المادة 34 من الميثاق، الصلاحية بأن يفحص أيّ نزاع أو أيّ موقف، قد يؤدّي إلى احتكاك دولي، أو قد يثير نزاعاً، لكي يقرّر ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف، من شأنه أن يعرّض للخطر، حفظ السلم والأمن الدوليين.

لكن هذه الصلاحية محدّدة قانوناً بمفردة «دولي»، أيّ أن هناك أطرافاً دولية متنازعة، أو يمكن أن تتنازع، وهي غير موجودة في حالة البلدين.

وبالعودة إلى بنود القرار، نستعرض الإشكالية الأولى:

لقد قصد القرار بالطلب إلى جميع القوات الأجنبية الباقية بالانسحاب من لبنان، «القوات السورية» تحديداً، على اعتبار أنّ العدو الصهيوني قد نفذ الانسحاب العسكري، استنادا إلى تفسير الأمم المتحدة للقرار 425.

فهل كان الوجود العسكري السوري في لبنان يشكل نزاعاً دولياً، أو يمكن أن يشكل نزاعاً دولياً؟

لقد تواجدت القوات السورية في لبنان، بطلب من الحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً، وبموافقة ضمنية دولية، بغية وضع حدّ للحرب اللبنانية الأهلية، ثم تحوّلت لاحقاً إلى قوات ردع عربية، بموافقة جامعة الدول العربية، ثم تحوّلت بعد اتفاق الطائف، إلى وجود منظم من حيث التموضع المرحلي والزمني عام 1989، ومن ثم أصبحت هذه القوى تخضع لاتفاقية التعاون والتنسيق بين الدولتين اللبنانية والسورية الموقعة عام 1991.

إذاً… إنّ الوجود السوري في لبنان، كان نتيجة طلب لبناني رسمي وتمّت قوننته باستمرار، ولم يشكل أيّ حالة نزاع دولي، وانْ كان يمكن أن يشكل حالة نزاع داخلي، لا ترقى إلى مستوى النزاع الدولي الذي يهدّد السلم والأمن الدوليين.

وهنا نسأل: ما هي الأسانيد القانونية التي ارتكز اليها مجلس الأمن الدولي، في مقاربته لطلب انسحاب جميع القوات الأجنبية الباقية من لبنان «القوات السورية»، وهي قوات تخضع لوجود شرعي منظم قانوناً، ومتعارف عليه في كل دول العالم؟

لقد أعطى القانون الدولي للدول، حق إبرام المعاهدات الدفاعية في ما بينها، وكان دور الأمم المتحدة، يقتصر على التبلّغ والتسجيل لهذه التحالفات، وليس من شأنه القبول أو الرفض بها، لأنها خارج إطار ما نصت عليها صلاحياته.

الإشكالية الثانية: هي في البند المتعلق بالدعوة إلى حلّ ونزع أسلحة كافة المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، والمقصود بها سلاح «المقاومة»، لأنّ جميع المليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت قد سلّمت سلاحها من حيث الشكل، إلى السلطة اللبنانية بعد اتفاق الطائف.

لقد تحدّثت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة، عن الإيمان بالحقوق والكرامة الأساسية للإنسان، وقد فسّرها القانون الدولي، بحق الإنسان بالحرية، وعدم الخضوع لإرادة قهرية أو عنفيه، وفي تقرير المصير.

وكذلك أقرّت المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، حق الدفاع عن النفس، أمام اعتداء قوة مسلحة أخرى.

إنّ الاعتداء الصهيوني على لبنان، لم يبدأ مع وجود المقاومة، والتي هي ردّ فعل على فعل اعتداء، ولن ينتهي مع حلها ونزع سلاحها.

والقرار قد تجاوز روحية ومواد القانون الدولي، والذي يعطي للشعوب الحق في الحرية، والنضال في سبيل تحقيق هذه الحرية، وفي تقرير المصير، باعتبار انّ العدو الصهيوني قد انسحب من لبنان، ولم يعد للمقاومة من حاجة، والتي لم يعترف بها أصلاً، إلا كمنظمة إرهابية في وجه المدرسة السلمية والتسووية.

لقد وصف المقاومة التي حرّرت الأرض، بصفة يُراد لها الانتقاص من حقها، كعصابة خارجة على القانون.

إنّ شرعية المقاومة تستمدّها من عدالة قضيتها، ومن احتضان شعبها لها، ومما نصت عليه القوانين والمواثيق والحقوق الوطنية والدولية.

الإشكالية الثالثة: هي في الدعوة إلى إجراء عملية انتخابية حرة وعادلة في الانتخابات الرئاسية اللبنانية القادمة، وفقاً للقواعد الدستورية اللبنانية، من دون تدخل أو تأثير خارجي.

في الحقيقة أنّ هذه الدعوة، قد تناولت مسألة هي محض شأن داخلي، وتشكل تجاوزاً للصلاحيات الممنوحة للأمم المتحدة، لا بل هي تدخل غير قانوني في شأن دستوري لدولة ذات سيادة.

لقد نصت المادة 49 من الدستور اللبناني، على تحديد ولاية الرئيس بست سنوات، وعدم إعادة انتخابه إلا بعد مرور ست سنوات لانتهاء هذه الولاية.

لكن، وانطلاقاً من الدستور نفسه المواد 76- 77 78 79 يمكن للسلطتين التنفيذية والتشريعية تعديل أيّ من مواده.

وقد سبق للمجلس النيابي أن عدّل نص المادة 49 عام 1949 وجدّد انتخاب الرئيس بشارة الخوري لست سنوات أخرى، كما عدّل نص المادة 49 عام 1995 ومدّد ولاية الرئيس الياس الهراوي لثلاث سنوات أخرى.

إذاً… إنّ تعديل نص المادة 49 لصالح تمديد ولاية الرئيس إميل لحود عام 2004، لم يكن سابقة دستورية في تاريخ لبنان السياسي، وهي مسألة محض داخلية تختص بسيادة الدولة.

فعلى أيّ أسانيد قانونية ارتكز مجلس الأمن إلى مقاربة تمسّ الدستور اللبناني في صميمه، وتجعله عرضة للخرق والانتقاد؟ وهل أصبحت مقاربة الدساتير الوطنية، من صلاحيات مجلس الأمن؟

لقد أعطى القانون الدولي الحق للشعوب في تقرير مصيرها، وأقرّ لها بالمساواة بين الأمم، وهذا ما عبّرت عنه الديباجة، والمادة الأولى من الميثاق في الفقرة 2، وفي المادة الثانية الفقرة 1.

لقد تجاوز القرار رقم 1559 الكثير من القانون الدولي، ليصبح قرار ملتبساً، يمكن أن يكون من أخطر القرارات التي تناولت الوضعين اللبناني والإقليمي.

أما التداعيات القانونية والسياسية له، فيمكن أن تتجاوز الزمن لعقود طويلة، وتضع المنطقة في ظلّ أحداث جسام، وتطرح العديد من الأسئلة المبهمة ومنها:

1 هل كان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في 14 2 2005، ضرورة ملحة لخروج الجيش السوري من لبنان في 26 4 2006؟

2 ما هو الثمن لنزع سلاح المقاومة، ومن ينفذ هذا النزع بعد أن عجز العدو الصهيوني عن تنفيذه؟

3 ما هو النظام السياسي الجديد المقترح للبنان وللمنطقة، بعد إعادة رسم خريطة شرق أوسطية جديدة، تكون المدرسة التسووية والسلمية هي المعلم الأساسي لها؟

لا شك أنها أسئلة مشروعة، في ظلّ تبدّل الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، نحو المزيد من التفتت والتشرذم، لصالح القوى المعادية للقوى الوطنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى