25 أيار 2000 من تحرير الأرض…إلى تحرير الإرادة

معن بشّور

كان الاندحار الصهيوني عن الحزام الأمني الحدودي المحتلّ انتصاراً تاريخياً للبنان المقاوم بكلّ المقاييس، ومعه جميع شرفاء الأمة وأحرار العالم، بل كان ذاك الانتصار تتويجاً لعقود طويلة من الكفاح والمقاومة عاشها أولاً شعب فلسطين ومعه أبناء الأمة والإقليم أجمعين، على تنوّع تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، وهي عقود تخللتها انتصارات وانكسارات، آمال عراض وخيبات كبرى، فلا يمكن الفصل بين ما تحقق في 25 أيار عام 2000 وما حصل في المثلث الفلسطيني ومعركتي القسطل والفلوجة عام 1948، وما جرى في بور سعيد وقناة السويس عام 1956، وما حدث في وقفة بور تسموث العراقية ضدّ الاستعمار البريطاني، ثم في «التوافيق» السورية عام 1960، وفي الكرامة الأردنية عام 1968، وفي تشرين المصري – السوري – العربي عام 1973، وما وقع في بيروت عام 1982، وحتى ما جرى قبل ذلك في ثورات التحرير في ليبيا عمر المختار وجزائر عبد القادر الجزائري ومغرب عبد الكريم الخطابي وتونس صالح بن يوسف وسودان المهدي ويمن الثلايا وأقطار الأمة كافة…

بل جاء ذاك الانتصار الذي أدى إلى اندحار المحتلّ تتويجاً لصفحات مجيدة من تاريخ المقاومة اللبنانية للمشروع الصهيوني بدأت فكرياً مع الأب بولس عبود الكسرواني، والكاتب نجيب عازوري الجزيني، والفيلسوف ميشال شيحا البيروتي، وصولاً إلى الوزير ميشال إده الموسوعي في مناهضة الصهيونية، وتواصلت نضالياً مع فوزي القاوقجي الطرابلسي، ومعروف سعد الصيداوي، والشهيد النقيب محمد زغيب البعلبكي لتصل إلى ملاحم سطرها في ستينات القرن الماضي وسبعيناته رواد أبطال مثل الأخضر العربي أمين سعد في شبعا، وحسين علي قاسم صالح في كفرشوبا، وواصف شرارة في بنت جبيل، وشباب حي باب الرمل الطرابلسي وقد استشهدوا في الهبارية في أيار 1970، وآل شرف الدين ومحمود قعيق في الطيبة، وعبد الأمير حلاوي في كفر كلا، والبيروتي نور الدين المدوّر شهيد المقاومة في القاسمية عام 1978، وصولاً إلى تلك المقاومة الأسطورية دفاعاًَ عن مدن الجنوب ومخيماته، وعن بلدات البقاع الغربي وراشيا، خاصة مع الجيش العربي السوري في السلطان يعقوب، وصولاً إلى بيروت حيث كان الصمود التاريخي لفلسطينيين ولبنانيين وجنود سوريين ومتطوعين عرب في وجه حصار الثمانين يوماً، وحيث انطلقت رصاصات المقاومة الأولى ضدّ العدو المتوغل في العاصمة على يد أبناء الطريق الجديدة، ثم تلتها عمليات رأس النبع والبسطا والمصيطبة وعين المريسة وزقاق البلاط وسييرس والنورماندي حتى رأس بيروت والعملية النوعية الخالدة لخالد علوان، وهي عمليات استمرّت بعد عام 1982 وحملها على درب الاستشهادي الأول أحمد قصير شهداء وشهيدات مثل سناء محيدلي، ولولا عبود، وبلال فحص، وابن بيروت سمير الشامي، وغيرهم وغيرهم، من مقاومين عروبيين وناصريين وبعثيين وقوميين اجتماعيين وشيوعيين وإسلاميين من حواري صيدا إلى سهول البقاع الغربي وأعماق جبل عامل.

كان الانتصار عام 2000 نقطة التحوّل النوعي في تراكم تاريخي شاركت في صنعه سائر قوى التحرّر والنهوض في لبنان، ما يدفع قائد المقاومة وإخوانه إلى التأكيد دائماً على هذا التنوّع في مراحلها أو في طبيعة المشاركين فيها، مدركين أنّ ما من إساءة للمقاومة أكثر من محاولة استفراد فريق أو تيار أو حزب أو فئة بها وهي ويا للأسف محاولات بدأت مع انطلاقة المقاومة عام 1982.

ومثلما كان انتصار عام 2000 تتويجاً لمرحلة كاملة من الكفاح والمقاومة وصلت إلى ذروتها المتقدمة، كمّاً ونوعاً، مع المقاومة الإسلامية عامة، وحزب الله خاصة، يمكن القول إنّ ذاك الانتصار كان أيضاً افتتاحاً لمرحلة بلغ فيها صراع الأمة مع أعدائها أشدّ مراحله دموية وعنفاً، وصراع الأمة مع أمراضها وعثراتها وواقع الاستبداد والفساد والتبعية أخطر تجلّياته في تداعياته المستمرة.

وبقدر ما كان ذاك الانتصار مذهلاً للأعداء ومقلقاً لهم بكامل إيحاءاته الروحية والنضالية والسياسية والميدانية، كان أيضاً محرّكاً لأعلى درجات الرغبة في الانتقام لديه ولدى حلفائه وأدواته، حتى يمكن القول إنّ كلّ ما شهده لبنان، ومعه الأمة والإقليم، من اضطرابات وتهديدات وفتن وحروب إنما كانت في جزء مهم منها، نتيجة تلك الرغبة العارمة في الانتقام من المقاومة كخيار وثقافة وسلاح، ومن الأمة التي ما امتحنها أعداؤها يوماً في استقلالها وهويتها وكرامتها إلاّ وقاومتهم بكلّ ما أوتيت من وسائل.

كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، بعد أشهر من الانتصار اللبناني، ثمرة لتلك العلاقة التفاعلية بين مقاومة فلسطين ومقاومة لبنان، لذلك كان أيضاً الانقضاض الصهيوني على المدن، والمخيمات عام 2002 في الضفة الغربية انتقاماً للهزيمة الصهيونية في لبنان، وحرباً استباقية للحيلولة دون تكرار ما حصل في لبنان على أرض فلسطين.

وبقدر ما كان احتلال العراق عام 2003 وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية على أرضه، بعد سنوات من الحصار والعدوان، في جزء منه ردّاً استراتيجياً على المناخ الثوري الذي انطلق مع الانتصار في لبنان، ومحاولة تطويق المقاومة اللبنانية الظافرة بطوق من التحريض الطائفي والمذهبي، فإنّ المقاومة العراقية العظيمة التي أربكت اندفاعة المشروع الصهيو أميركي في عموم المنطقة حذت حذو المقاومة اللبنانية في مواجهة عدو متفوّق عسكرياً ولكنه بات مرتبكاً أمام إرادة شعب مقاوم.

بقدر ما كان دور سورية في احتضان المقاومة اللبنانية بعد الغزو الصهيوني عام 1982 عاملاً حاسماً، سياسياً ولوجستياً، ساهم في تمكين المقاومة من تجاوز العديد من الألغام والمطبات والكمائن السياسية والحروب العسكرية، فإن ما تشهده سورية منذ ثلاث سنوات ونيّف من حروب ودمار وفتن لا يمكن فهمه خارج سياق الانتقام من المقاومة وداعميها في انتصارها عام 2000 ثم عام 2006، وبالتأكيد عبر استغلال ثغرة من هنا، وأخرى من هناك، في بنية النظام وفي الأداء والممارسة.

بقدر ما كان تحرير غزة على يد المقاومة الفلسطينية الباسلة تأكيداً على سلامة الشعار الذي رفعه ذات يوم جمال عبد الناصر بأن «ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة»، وهو شعار كلّ مقاومة اليوم، فإنّ حروب ما بعد تحرير غزة على القطاع المحاصر والصامد لا يمكن قراءتها أيضاً إلاّ في سياق الرغبة الصهيونية العارمة في الانتقام من المقاومة، خياراً ونهجاً وثقافة وسلاحاً. وما يُقال عن العراق وسورية وفلسطين وتداعيات الانتصار اللبناني على تطورات الأوضاع فيها، يمكن أن يُقال عن مجمل التطورات التي شهدتها أقطار الأمة وكياناتها. فأياً يكن تقويم الحراك الشعبي الذي شهدته تلك الأقطار، فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أنّ كسر حاجز الخوف لدى المواطن العربي الذي ساهم في إطلاق هذا الحراك هو أحد ثمار انتصار المقاومة العربية الشاملة على الأعداء المدجّجين بأعتى ترسانات الأسلحة وأشدّها فتكاً، فإذا كان مقاومون بأسلحة بدائية، تصل أحيانا إلى الحجارة، قادرين على هزيمة القوى الجبارة، فلماذا لا يقدر المواطن البسيط على هزيمة أنظمة هي صنيعة تلك «القوى الجبارة»؟

في السياق ذاته، لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ أحد أسباب تفجّر هذا الحراك الشعبي الهائل، لا سيّما ضدّ الأنظمة التي كانت تستند إلى دعم واشنطن وحتى «تل أبيب»، إنما حصل بسبب تحوّل في موازين القوى الإقليمية والدولية لغير مصلحة الحلف الصهيو استعماري، وهو تحوّل كان الانتصار اللبناني أيضاً، كما الفعل المقاوم الفلسطيني والعراقي، والصمود الشعبي العربي والإسلامي، أحد مصادره. وما رأيناه من محاولات التفاف حول هذا الحراك، وإجهاض نتائجه، وحرف مساره، لم يكن سوى سعي محموم من قبل ذلك الحلف المسموم لإعادة إنتاج ميزان قوى جديد لمصلحة هذا الحلف…

إذن كان تحرير الأرض مقدمة لتحرير الإرادة، تماماً مثلما كان تحرير الأرض نتيجة لتحرير إرادة المقاومين سواء في لبنان أو فلسطين والعراق، فالإرادة الحرة تحصّن حرية الوطن والإنسان، والعكس صحيح، لكن تحرير الإرادة يبقى المهمة الأصعب في رحلة التحرير الشاملة. فتحرير الأرض يحتاج إلى مقاومة المحتلّ، لكن تحرير الإرادة يحتاج إلى مقاومة للاحتلال الخارجي، وللاختلال الداخلي في العلاقات بين الدولة والمجتمع، ومكوّنات المجتمع ذاتها، اختلال طال جوهر المصالح الحيوية للأمة وأهدافها في وحدتها واستقلالها وتنميتها وتجدّدها الحضاري والعدالة الاجتماعية، وهي مصالح وأهداف يرتبط تحقيقها جميعاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

إنّ نقطة البداية في تحرير الإرادة، الوطنية والقومية، تنطلق من توفير عوامل القوة الذاتية لدى الشعوب والأمم، وهي في حال أمتنا تقوم على ركيزتين أساسيتين:

أولها وحدة وطنية داخل القطر تبدأ من المصالحة الشاملة التي تضع حداً للتدهور في العلاقات بين مكوّنات المجتمع وتحترم التطلعات المشروعة للشعوب، وهي مراجعة تستند بالضرورة إلى مراجعة عميقة يقوم بها الجميع لتجاربهم وممارساتهم، فيعمّقون الإيجابي منها وينبذون السلبي، وفي مقدّم تلك السلبيات عقلية الإقصاء والإلغاء والاجتثاث التي تجتث الوطن فيما تظن أنها تجتث فئة واحدة منه.

ثانيها اتحاد عربي على مستوى الأمة يبدأ من تكامل متدرّج على الصعد الاقتصادية والدفاعية والثقافية والاجتماعية والتربوية، يصل بنا إلى اتحاد الكيانات العربية فيخرجها من أزماتها التكوينية المتفجرة فقراً وجهلاً وتخلفاً وغرائز متنابذة وعصبيات متناحرة، ويدخلها في رحاب العصر.

فإلى مقاومة تحرّر الإرادة، بعدما عرفنا مقاومة تحرّر الأرض…

المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى