من تقييد اللون وشبح الكلمات إلى زجاجة لقنديل الوحدة… «منتهى وحدتي» للشاعر والتشكيليّ الإيرانيّ سهراب سبهري

عباس علي موسى

في الكتابة يكون إحساس الوحدة مزدوجاً، فالشعور بها يكون بانكفاء الأشياء في دواخلنا وانزوائها، ويكون أكثر وحشة حين نكتب على إثرها وعبر اللغة كلمة «الوحدة». ماذا تعني الوحدة بالنسبة إلى امرئ يعيش في الكلمة وبها؟ هل تعني أن تكون تكثيفاً وتكريساً لكلمة الوحدة؟ كم نحن الكائنات اللغوية مغبونون وربما سيقال أيضاً: كم هم محظوظون إذ يعيشون في الكلمة وبها. فإن أنا كتبت «الوحدة» فهل يعني أن أعيش فيها وأن تأسرني الكلمة؟ ماذا لو أنّ أحدهم جاء وخطّ تحتها كلمة «الحضور»، فهل تنقلب الآية إذ ذاك؟

ثمة ما يشاركنا الوحدة بغرض تبديدها، لكنّها تساهم أكثر في تأجيجها. فنجان قهوة بسكّرٍ خفيف أمام بركة ماءٍ يتهادى ماؤها كأغنية، حتى قبل أن تشعل في آلة التسجيل رغبة الأغاني في صباحٍ خريفي، أن تستنطق الآلة لتشاركك الوحدة بدعوى تبديدها، فيكون تكريسها للوحدة أشدّ، أن تكتب رسالةً لأنثاك، أن تحاول قراءة الشعر وعلى عينيك آثار نعاسٍ لا تريد أن تمسحه، أن تسمع وقع المطر. ثمة من يشاركك المدى، تستقبل أنت أيضاً رسالةً من أنثاك، أو ربما تشاركها صوتها لتقول لك: «صباح الخير»، فيستفيق فيك الحنين للحضور أكثر ما يجعل الوحدة مشدودة إلى أوتار السماء.

ربما تكون الوحدة من أكثر الصفات التي يعانيها الشعراء، وهي هنا الغربة والعزلة، وعادة ما يكون المكان الحاضن للوحدة غرفة وربما تكون الشمعة من أكثر العناصر المكان/الغرفة تعبيراً عنها، فبمجرد إشعال الشمعة تسقط في إطار الغرفة كل الأشياء الأخرى، وترى ظلالك تملأ الغرفة بدءا من ظلال أصابعك وهي تقبض على اللحظات، وليس انتهاءً بظلال حذائك. في العتمة التي تخترقها الشمعة بخطوط متوازية تكون للظلال حكاية أخرى فتتقد المخيلة وتعكس الظل بحجم مضاعف يكاد يملأ عليك الغرفة لتقول: «أنت وحيد».

في الوحدة يزهر كل شيء داخله من أصابع يديه حتى أصابع قدميه، وتتفتق الأشياء من داخله، ويصير لكل شيء حكاية، ويهرع القلم عندها لتقييد الكائنات التي ولّدها الشاعر في عملية تشبه جني الزهر لاستخلاص المادة العطرية، أو بصورة أنقى إن قلنا في عملية غرونوية «نسبة لغرونوي بطل رواية العطر لسوزكيند» كجمع العبق من أجساد العذارى.

في موضوع الوحدة سنستحضر الشاعر التشكيليّ الإيرانيّ سهراب سبهري على مستويين، مستوى الكلمة كونه كائناً لغوياً، ومستوى اللون كونه كائناً لونيّاً أيضاً، ونركّز على كونه مزدوج الإبداع كونه مهما في موضوعة الوحدة. يقول الشاعر سهراب سبهري في منتهى وحدته:

وحيدٌ أنا

وأطراف أصابعي تجوس ينبوع الذاكرة،

الحمام ينتفض على حافة الماء،

وضحك الموج ينتشر،

النحلة تجني خضرة الموت،

وهذا البهاء يتفتّح في القبضة المرتخية للريح

بك أنا ممتلئٌ يا ثغرة مشرعة في حديقة

حيث تتناغم الصنوبرة، الفزع، وذاتي

الآن ها هي ساعتي:

أيّها الباب المشرع على الأعالي!

أيتها الدرب الموصلة إلى اللوتس الصامت للرسالة!

كم من فداحةٍ في الوحدة التي ترشح في نصّ سهراب، فهي وحدةٌ تتوالد في دواخلنا في لحظات السكون الكلّي، لكنّها تجري كلماتٍ بالنسبة إلى شاعر، لكن إن نحن أمعنّا في كلمة الوحدة على المستوى اللغوي، فهل هي تعني أن المرء يتحوّل من متعدّد إلى واحد؟

وبهذا المنطق إن نحن أجبنا بـ«نعم»، هل يعني ذلك أن المرء يتحوّل إلى الوحدانية عن طريق الوحدة بمنطق المتصوّفة؟ كما انتهى إليها ابن العربي، في وحدة الوجود والتوحد مع الذات الإلهية. ربما لا تكون الوحدة هي أن تتحوّل من متعدّد إلى واحد، لكن ربما تكون منتهى الوحدة هي كذلك، فهي برزخ الشاعر في الـ«فراغستان»، تلك الأرض التي يحدّثنا سهراب عنها في نصوص أخرى، فالوحدة هي إذن حرب تجمّع العناصر في الداخل/الغور في ذواتنا، فالوحدة تعني فقدان الحركة حولنا وتحولها إلى الداخل، فيصبح غورنا عالماً ممتلئاً، فسكون العالم يعني تلك الحركة في منتهى وحدتنا.

الـ«فراغستان» هي الأرض التي يتجاور فيها ستاتيك الكون بديناميته، وأما منتهى الوحدة أو الحدّ الفاصل، ونقطة التحوّل بين هذين العالمين هو العالم السحري الأجمل بالنسبة إلى الكلمة أو اللون، وهي التي تستدعي نصّاً ما أو لوحةً، وهي التي ينتمي إليها نصّ سهراب وكذلك لوحته. أما في لوحة سهراب ماذا نجد؟ رجلاً جالساً على كرسيٍّ من خيزران وهو يضمّ إحدى قدميه، واليدان مضمومتان في تكريسٍ للانطواء، والإطار الخارجي ليس غرفةً! كما سنوصف غالباً الوحدة بمنطق شاعر، بل الإطار هو شيء أكثر تعبيراً عن الوحدة!

الإطار هو زجاجةٌ بعنقٍ ضيّقٍ لكنّه يختزل الوحدة بفداحةٍ كبيرة، ربما اللوحة هي جوابٌ لسؤالٍ طرحه أكثر الشعراء، وجواباً عن سؤاله تسأله كل صباحٍ صبية حلوة تمرّ أمام بيت الشاعر تنظر صوب شرفته المواربة أبداً وتلقي إليه السؤال:

أيها الشاعر ما الذي تعنيه الوحدة؟

فيسهب الشاعر بالكلمات، ليكتشف في النهاية أنها ليس تفسيراً للسؤال، إنما هي إحساس الوحدة مضاعفاً. فيلقي قلمه جانباً ويحمل ريشة ليرسم، فتكون الألوان شباكاً تحمل الكلمات طرائد وتحمل الشاعر ليدخلا من عنق الزجاجة الضيّقة، فيحتبسا في الزجاجة لترمق الصبية الحلوة الشرفة المواربة، وعلى حافتها زجاجة والشاعر يبدو بداخلها في هيئة كلمة «وحدة»، وقصيدته عن «منتهى وحدته» في داخل الزجاجة.

ثمة كلام آخر عن وحدته! يولد النصّ في ضجيج كبير هو ناتج تلك الوحدة المغرقة في صمتها، ففي لوحة سهراب، نرى كيف أنّه وضع الوحدة من دون إطار ذي عناصر متعدّدة كالغرفة، فقد حدّد الإطار لتكون قنينة زجاجية، لتكون العناصر عناصر عذراء، لا تلد سوى الوحدة. على العكس من الشمعة التي تولّد للشاعر كائنات تساعده على اختلاق الصخب داخل الصفحة، وتبدو اللوحة أكبر من الوحدة لتدخل مفهوم العزلة كاختيار ذاتي ولنقل إنه اعتزال، وبالنظر إلى ضيق فتحة الزجاجة سنقول إنه لم يختر الدخول في هذه العزلة، وإنما هو الذي خلقها من خلال عملية الضم التي يبدو فيها وكأنّه في حالة نبوية يستنطق سكون العالم، ويكون الإطار هو الذي يبدو للآخر الذي ربما ينظر من زاويته بينه وبين موجودات العالم، لتمنع عنه صخب العالم وتؤمن السكون. والسؤال الذي ربما سيسأله القارئ على لسان الصبية الحلوة، التي لا تعرف الوحدة ككلمة أو لوحة، بما أنّها ليست شاعرة ولا فنانة.

لم لا ترمي الصبية الزجاجة بحصى، التي إن لم تصب الزجاجة ستحدث صخباً ما، من شأنه أن يحرّك الوحدة داخل الغرفة فتزهر الجدران عندها حضوراً صاخباً، وإن حاولنا أن ننظر داخل الغرفة، لا بعين الصبية التي تراها مواربة أبداً، وحاولنا أن ندخل الغرفة من الباب، بعد كسر قفله بهدوء كما يفعل اللصوص الذين يكسرون الأقفال من دون أن يزعجوا أحداً.

إن نظرنا إلى الشرفة من الداخل سنرى عند الزجاجة أصيصاً لزهر، ولكن ما الزهرة التي ستكون إلى جانب هذه الزجاجة، وتكون معبرة عن الوحدة بهذه الفداحة؟ هل ستكون زهيرات ياسمين مقطوفة بأزرارها وموضوعة في أصيص من زجاج لكن بعنق وسيع، وتتفتح مع كلّ صباح زهرة؟ أم ستكون ثمة رمانة موضوعة في الشرفة تكاد تتفتق حبيباتها؟ وتزداد هذه الوحدة دقةً في نصّ «سقوط اللون» إذ يقول:

في أقاصي الليل

ستجرّب حشرة في أعماقها

الحصّة الخصبة من العزلة

وما الذي سيجربه كائن لغويّ؟ فهل ستحبل لحظاته بالوحدة أكثر ما تختزن رمانةٌ من حبيبات، هي حبيبات العزلة والوحدة.

ربما سنكتشف في نهاية الأمر أن الرمان من أكثر الفواكه مدعاةً للوحدة وتكريساً لها. وسيكون جلّنارها أكثر مدعاة للتفكير بالوحدة قبل أن ندخل عنق الزجاجة بصحبة كرسي من خيزران. لكن لو ندخل بخيال سينمائي ونحمل كاميرا لنجعل من إطار اللوحة أكثر حركةً، فرصدنا عصفوراً صغيراً، وبالتأكيد سيكون «عصفور الجنة» وحاول أن يحرّك كلمة الوحدة داخل الزجاجة فماذا سيفعل عصفور الجنة؟ هل سينقر بهدوء وشوق على الزجاج حتى يرفع الشاعر رأسه، أم أنّه سيلجأ إلى الرمانة فينقرها حتى تتفتق حبيباتها وعندئذٍ سيرفع الشاعر رأسه ليرى «صباح الخير» معادة آلاف المرات، لكن الصبية ستكون قد مضت! وستتعقب الكاميرا الصبية إلى غرفتها، لترى أنها ترجع إلى غرفتها وتدخل هي الأخرى زجاجتها على الشرفة المواربة وإلى جانبها تفاحة، وثمة عصفور جنة ينقر التفاح، لترى هي الأخرى صباح الخير من الشاعر معادةً آلاف المرات، ويكون الشاعر قد مضى حينئذٍ.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى