صباحات

قال الصباح: اختياراتكم هي أنتم لا أقداركم، وكلما زادت نسبة التضحية والمخاطرة لأجل الاختيارات، زادت نسبة التصاقها بما أنتم عليه وما تحبّون ومن تحبون، فإن قلتم إننا اخترنا تساءلوا عن ميزان الربح والخسارة المباشرَين في الاختيار، فإن كان الربح طاغياً فهذا ليس الاختيار، بل حسن الخيار. أما الاختيار فيمتحن عندما لا يكون ثمة أرباح ظاهرة، وتكون نسبة المخاطر أعلى من احتمالات الفائدة، وعندئذٍ نقول هذا اختيار القلب. ومتى كان العكس نقول اختيار العقل، لذلك يحفظ للذين سلكوا درب المقاومة يوم كانت مخاطرة نسبة الخسارة فيها طاغية أكثر مما يحسب لمجاهديها الابطال، لكن الذين سلكوها طريقاً بثقة نحو الانتصار، ولذلك حسب للذين وقفوا مع الدعوات والديانات كلها يوم كانت مجلبة للعذاب بغير ما حسب يوم صارت سبباً للقوة. تعرّفوا إلى خياراتكم من صداقاتكم التي تجلب لكم لوم الأهل، ومن حبّ تخفونه لأنه سيكون مدعاة استغراب، ومن خيار نقدّم له الخشوع ونخاطبه ونتحدّث عنه من بين الضلوع، ولا ننتظر منه كسباً ولا عائدات، ولا نجرؤ على التسبب له بالإتعاب، ونحفظ له أجمل الألقاب. ومقابل خيارات نتوقع منها الكثير ونتحاسب فيها على النقطة والفاصلة والكبرياء، ولما نعطي فيها أحاسيسنا فخجلاً من ضميرنا الذي يذكرنا بالإنصاف، فنخشى من أن نظلم ونخاف. جرّبوا امتحان خيارتاكم تعرفون من أنتم… هكذا تعرّف المقاومون إلى هويتهم وعرف بعضهم بعضاً في البدايات الصعبة… رحمك الله يا رفيق العمر الحاج عماد!

البِرّ بالوالدين والأرض!

قال الصباح: البِرّ بالوالدين يراه كثيرون حصرياً بالنصّ بِرّاً يمن ولد واستولد وأخرج للدنيا ورعى وربّى وحضن وتعب وتعذّب وعلّم وأنفق. وهو صحيح، لكن الحصرية فيه ضعف فهم واختزال معنى. فالوالدان أبعد مدى وأعمق معنى. الوالدان هما أولاً الوالدان، لكنهما ثانياً الوطن والأرض اللذان رعيا وقدّما ومنحانا سكينة الهوية ووفّرا علينا عذاب البحث عن انتماء. وهما مَن مرّ في حياتنا أباً وأمّاً كمعلّم أو صديق أو جار أو قريب، قدّم الدعم وعبّر عن الحضانة في زمن الضعف، حتى نبت لنا ريش يقاوم العواصف وامتلكنا مقعداً على طاولة الحياة. فمن لا خير فيه لوطنه وأرضه ولم يتعمد بالتضحية لأجلهما، صار بِرّه لوالديه تكسّباً رخيصاً للحسنات خشية نار أو طمعاً بجنة. ومن لا بِرّ فيه لمن منحه دفء الانتماء والهوية الأوسع لا يصدق بِرّه لمن منحه دفء الهوية الأضيق. ومن لا بِرّ عنده لمن رعاه وواساه وزرع البسمة في ثغره وهو كبير، مطعون ببِرّه لمن ذرف الدمع عليه وهو صغير. ولأن حكاية البِرّ بالوالدين شائعة، وينظر فيها الناس، ففيها شبهة النفاق والتمسّح والتكسب للرضا الاجتماعي، فيصير اختبار الصدق فيها بالبِرّ للوطن والأرض والبِرّ للذين مدّوا رموشهم نمشي عليها ولو ابتعدوا. هكذا كان الاسلام مع ملك الحبشة النجاشي رحوماً لأنه بّرّ بمقام البِرّ بالوالدين لأنه حضن المهاجرين من المسلمين بعدما أذتهم قريش، وأمرهم الرسول بالهجرة إلى الملك العادل… ملك لا يظلم عنده أحد وعادل في حكمه كريم في خلقه.

بين العطاء والمنّة!

قال الصباح: مَن أقرب إلى الله في رمضان، رجل يمضي الليل في الصلاة والدعاء والتلاوة، أم رجل يقيم الليل خادماً للناس وهم نيام. الأول في منزله المكيّف وأثاثه المرهف وطعامه المكثف وشرابه المخفّف، وبين ساعة وساعة يحادث زوجة أو أولاده بأحوالهم، ويقصّ عليهم النصائح وحكايا النبيين والأولياء الصالحين، ويمتدح سيرة المقاومين ويدعو إلى خلاص البشرية والمسلمين. والثاني جنديّ أو مقاوم على خطّ النار، أو صحافي في غرفة الأخبار، أو عامل نظافة من دار إلى دار، أو عامل حدائق في سقاية الأزهار، لا يعرفون انتظام النوم والقيام، ولا متعة الإفطار والصيام، ولا يملكون قدرة التحكّم بالحرارة والأمطار. وزوج وأولاد كل في مدار، طعامهم على الواقف، وكثيراً بلا شراب على الناشف، ويقولون إن احتسبت من الحسنات فتلك أحسن، وإن لم تحتسب فنحن نقوم بالواجب واللعنة على مَن تمنّن… واحد يسعى ليفيد نفسه عند الله ولا يفيد إلا إن تأثرت وأنت تراه، وثانٍ يخدم الناس ويفيدها ولا يستفيد ويظنّ عين الله تراه… اسألوا الشام تجيبكم.

سرّ الحبق!

قال الصباح: العطر أنواع تستهوي أمزجة وطباعاً. فمنها عطر الورد لأهل العشق والحبّ، وعطر الياسمين لأهل الحضارة والتاريخ والمدنية، قبل التدوين وما بعده. وعطر الريحان للشهداء وأهل القضية والإيمان. أما للذين يحبون العطور للتنسك فلهم البخور. ومن يحبون التمسك والسجود فلهم عطر العود. والعطر من أنواع الخشب يتبدل حسب الطلب. من عطر المنازل إلى عطر المكاتب، وعطر المسائل أو المتاعب. ويبقى عطر الأمّ من العرق وعطر الشمس في الشفق. وعطر كلمات الصباح وحبّه المشفوع بالسماح من حبق… لأنه عطر للعموم ليس فيه خصوصية يتوزّع بمقدار معلوم من دون سبق. فللكل منه نصيب لو تعلمون معنى أن العطر من دون كل ما نعمله ونراه ونحسّه، لا ينقص من مقداره كثرة زواره وطلابه وأحبابه. فشتلة حبق واحدة تكفي لتنثر عطرها ذاته، أكان الزائر فرداً يروي آهاته أم كانت جماعة جاءته عفواً أو قصداً تتنعم بنسماته. فعطر الحبق كالفكر يتّسع مجاناً بلا تحديد، ولا يحتاج مكاناً وزماناً ولا تجديداً… لكلّ عطره فليكتشف ذاته منه فيعرف هو من أي نوع من العطور، لا ما يهواه منها… وعندئذٍ سيعرف ماذا يأخذ وماذا يعطي. وطوبى لأهل الحبق على رغم أنهم يوزّعون الخير ولا ينتظرون، ولأنهم دون سواهم لا مصدر فرح أو استئناس لهم إلا ثناء الناس.

وعد عمر الفرّا

قال الصباح: تفقد اللغة طعم الصباح وتصاب بالشلل. فالخبر الصاعق على الحروف خطب جلل… الشاعر الذي حوّل الألف والجيم والضادّ إلى سيوف لملم بعضه والقلم والحبر ورحل… عمر الفرّا غاضب مما حصل… يصرخ في الصحراء ينادي زنوبيا والأمر خطير. وكيف أرقد كما تواعدنا في تراب تدمر وقد صارت حظيرة خنازير… بعدما كانت مطهر القدّيسين. وكيف أنام بينهم وأنت في خطر؟ واعدهم عمر الفرا كما وعد اليهود. سيلبس «طاقية الإخفاء» ويعود. من بين أسنانهم سيطلع. وبين ضلوعهم لغماً تفجر، سيحرّر السبايا ويحرس القلعة والمعبد، ويصول بسيفه يجزّ أعناقهم، ويجول يكشف بالشعر نفاقهم، ثم يرجع وينشر فراءهم وهو الفرّا، ثم بيبعهم في سوق النخاسة ويفري بسيفه المسلول عنق أميرهم. وينثر رمادهم في بحور النفط بدلاً من بحور الشعر ليحرق أوراقهم. وما تبقى من الشعوذة والسحر، ها هو يحيي الليلة الأولى من رمضان ويواعد المقاومين في القلمون، ويتزوّد بحمولة تكفي من يا قدس إنا عائدون. ويمضي ويقول موعدنا ليلة القدر، خير من ألف شهر، وأتيت للمنازلة فمن أراد ملاقاتي فليقرأ النازلة، سننزل عليهم نكرّهم كرّاً ونفرّيهم فرّا، ولتعلن اللغة لغة السلاح فقد سئم الليل وسئم الصباح… قال عمر الفرّا وقال إن «حمدة» لن تبقى مفقودة. سيحرّرها ويعود، يتمتم، الوهابية من نسل اليهود، قصيديتي التي كتبتها ولم تقرأوها.

الشهادة!

قال الصباح: الفرح والحزن حالتان قد تجلبان الشعور بالرضا للنفس أو عنها أو عن الغير إليها. لكن قلة تعرف كيف تجلب الرضا مع الحزن. وغالبية الناس لا يرضون إلا بالفرح سبباً للشعور بالرضا، وبينما يعلمون الجمع بين الرضا والحزن هو تعمق في إنسانية الإنسان، لأن أصل الفرح الرغبة بالحصول والوصول، وهما فطرة الطفولة يعيشهما من لا تزال إنسانيتة ما قبل النضوج، ولو بلغ الشيخوخة. أما الحزن فهو شعور مصاحب للخسارة. والخسارة نوعان ما يصاحب الضعف والانهزام ويناقض العزة والكرامة. فالرضا فيه انحطاط بقيمة الإنسان، ومنها خسارة الزهد والترفّع والاقتدار. فتلك إن صاحبها الرضا صارت نوراً تضيء بينما خسارة المهزوم نار. أضاء الله صباحاتكم بالنور وأطفأ النار في قلوبكم وجعلها نوراً لا ينطفئ… الشهادة أرقى أنواع الرضا المصاحب لأرقى أنواع الخسارة.

عيد الأب

قال الصباح: لا تنسوا الآباء يوم يظنّون أنه بات ثابتاً لهم، ولا زال يغيب أحياناً عن الذاكرة ونتذكره عندما نحتاجهم أو يجتاحنا الحنين إليهم بعد رحيل، لم نحس ثقله إلا بعد زمن في كل امتحان، أو عند المحن فنتخيل وجودهم ونخترع نيابة عنهم نصيحة أو مشورة. أحبّ الآباء هم آباء الشهداء الذين فقدوا نور الحياة ويتصبّرون و يتحمّلون، فلهم نور الصباح يتجدّد كل يوم. فطوبي لمن يطبعون قبلة على جبين أبائهم أحياء، ويغبط من يعرفون ويعترفون بالأبوّة ويقدّرون معناها ويعيشون من المشاعر والاحترام أقواها، قبل أن يفتقدوا أو يبتعدوا وتصير كان هي الفعل المضارع، وهي تبقى فعلاً ماضياً ناقصاً وناقصاً جدّاً. أبوّة الصباح للنهار فتفقّدوه، وأبوة العقل للّسان فاحفظوه. وأبوّة القلب للعين فرفقاً بالقلوب والعيون. كلّ عام وأنتم بخير. أبي الذي أفتقد أكثر كلّما مرّ على الغياب أكثر… صباحك خير!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى