المجتمعات المتخلّفة تعيش خارج الواقع

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

في المجتمعات المتخلّفة، تتعطّل لغة العقل والفكر، ومن يغرّد أو يجتهد أو يفكر خارج شيخ القبيلة أو العشيرة، فهو متمرّد وخارج على الإجماع العشائري، وقد تفرض عليه عقوبات تصل إلى حدّ الطرد، وهذه المجتمعات في ظلّ التخلف والجهل وتدنّي مستوى الوعي، وتغليب العاطفة والمشاعر على العقل والفكر، تسودها النميمة والحسد مرادفات السلوك اللا معياري كلها من كذب ودجل ونفاق وتملّق والواسطة والمحسوبية و«تسليك» المصالح والفهلوة على اعتبار أنها شطارة، والإشاعات والحديث في المواضيع والقضايا الفارغة والتافهة، على اعتبار أن هذه المجتمعات تعيش على هامش الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وحتى خارج البشرية العاقلة، فهي في سلوكها وتصرفاتها أقرب الى البوهيمية والحيوانية، تفكر فحسب في بطونها وفروجها، تحركها عاطفتها ومصلحتها الخاصة، وفي ظلّ سيادة ثقافة الدروشة والشعوذة والتكفير، وتغلل وتوسع التحريض والفتن الطائفية والمذهبية، تصبح الأجواء مهيّأة لكي تتحوّل أي مشكلة ذات بعد شخصي بين طرفين مختلفين دينياً أو مذهبياً، الى حرب داحس والغبراء.

لكم أن تتصوروا برلمان دولة يجتمع لمناقشة هل مسموح دخول الفنانات هيفاء وهبي أو إليسا أو نانسي الى أراضيها؟ فهؤلاء ينشرن «الفسق» و«المجون» و«الانحلال الأخلاقي»، على اعتبار أنهن «فاجرات» و«داعرات»، ونحن لا نعتبر أنهن كذلك، لكن لو كان/نت المجتمع او الدولة القادمات اليه/ها محصن/نة اجتماعياً أو اخلاقياً، أو لا تعاني مشاكل وأزمات اجتماعية وجنسية عميقة، لما وجدنا أنه لمجرد ذكر أسماء هؤلاء الفنانات تزحف الجماهير الى ساحات الاحتفالات أكثر من زحفها الى دور العبادة…، وكي لا نكون مثل النعامة الدافنة لرأسها في الرمال، وكل جسمها مكشوف، فهذه المجتمعات منحلّة أصلاً وتمارس أنواع الدعارات سراً، والمثير للسخرية والتعجب، في حين يتحرك المشايخ ورجال الإفتاء المطاوعة والموجهة والمتمسحة بالدين وتسنفر جميع أجهزة الدولة وإعلامها للتحريض على هؤلاء الفنانات ومدى خطورتهن على المجتمع وأخلاق الشباب! نجد أن أولئك المشايخ ومؤسسات الإفتاء لا يتحرّكون لاغتصاب أوطان أو حتى تدنيس المقدسات ومحاولة تقسيمها أو هدمها، مثل المسجد الأقصى، أو حتى احتجاجاً على ما يتعرض له المسلمون على سبيل المثال في بورما من تطهير عرقي وقتل على الهوية، حيث قتل عشرات ألوف المسلمين، بينما يهبّون ويتقاطرون لما يُسمى بـ«الجهاد» في سورية، والفوز بالحور العين.

برلمان دولة أخرى يجتمع لمناقشة سفر المرأة للعلم على الطائرة أو رحلة مع محرم أو من دون محرم، كأنّ هاجس وشغل المرأة أو الفتاة المسافرة على الطائرة، هو فرجها فحسب وكيف تقضي شهوتها أو حاجتها الجنسية، وحتى لو كانت فاجرة أو داعرة، فهي لن تقدم على فعل فاضح في الطائرة.

تدار مناقشة وتعقد اجتماعات وتصدر فتاوى: هل من الشرع والدين أن يذكر اسم الفتاة او لا يذكر في بطاقة دعوة العرس، فهذه «قضية أمن قومي» من الدرجة الأولى! في حين يُستباح أمننا القومي ليل نهار ولا نحرك ساكناً، بل نتآمر على هذا الأمن. وخطورة هذه القضية وتداعياتها على المجتمع تحتاج الى اجتماعات متواصلة ولقاءات ماراتونية، شبيهة بمفاوضات السلطة الفلسطينية مع «إسرائيل» التي لم تثمر سوى عن مزيد من فرض الحقائق والوقائع وتوسع المشروع الصهيوني، والبعض فلسطينياً يريد أن يقنعنا بأهمية المفاوضات والنتائج و«الانتصارات» المتحققة من استمرارها، على قاعدة المأثور الشعبي «عنزة ولو طارت».

أليست هذه قمة الانغلاق والغلوّ في الجهل والتخلف؟ وتعبيراً عن عقليات بشر يعيشون خارج سياق البشرية العاقلة. إمرأة تشكل نصف المجتمع وتتحمّل قسماً كبيراً من أعباء الحياة، حتى في فرحها لا تستحق أن يذكر اسمها في بطاقة الدعوة، كأنّ ذكره يستفز رجولة «فحول» العرب، تلك الفحولة النائمة وغير الموجودة حين تتطلب المواقف أن يكون هناك رجال وفحولة، مثل قضايا اغتصاب أوطان، أو التعدي على أطفال ونساء عزل، أو تدنيس مقدسات، وهذا فيه تعبير عن مدى دونية تفكيرنا وأمراضنا المزمنة.

صوت المرأة وضحكتها جزء من «السيادة الوطنية» في حاجة إلى اجتماع مجلس وزراء، أو عشرات الفتاوى التي يصدرها شيوخ مأزومون، جزء كبير منهم مرضى ويحتاجون إلى «تجليس» عقولهم وفكرهم، ففتاواهم موجهة ومدفوعة الأجر وتقام خدمة لمصلحة ولا سند شرعياً فيها.

ألا تخجلون من أنفسكم في مثل هذا اللغو الفارغ، لو التفتت المجتمعات المتحضّرة إلى لغوكم الفارغ هذا لما تقدمت سنتمتراً واحداً! لو التفتت دولة مثل اليابان التي تعرّضت للقصف بالأسلحة الذرية في الحرب العالمية الثانية إلى ما تشغلون به أنفسكم من تفكير عقيم وجدال بيزنطي وفتاوى لا تغني ولا تسمن من جوع، لما وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري وعلمي وتكنولوجي. نحتاج إلى مئات السنين للوصول إليه، رغم أن اليابان لا تملك عشر ثرواتنا ولا مواردنا، بل تملك بشراً وعقولاً استثمرت فيها لكي تنهض وتتطور، وليس عقولاً مثل أكياس الخيش فارغة، محشوة بأفكار وتخاريف وتعاويذ بالية أكل عليها الدهر وشرب، عقول تعتقد بـ«حلب» التيس وبأنّ شرب بول الجمال والنوق فيه شفاء من الأمراض، فشتّان بين فكر يقوم على العلم والتحليل والإبداع وإطلاق الطاقات واستثمارها، وبين الذين يدعون فتاة تموت في جامعة بعدما تعرّضت لذبحة صدرية، وعدم السماح لطاقم الإسعاف بالدخول لإنقاذها لعدم وجود محرم! بالله عليكم… هل بمثل هذا الفكر وهذه العقلية، ستبنى مجتمعات وحضارات؟!

المجتمعات المتخلّفة تحجر على الفكر والعقل، وتعطل الاجتهاد، وتطلق العنان للتخاريف والتهابيل ودعاة «الحجبة» والذين يدّعون رؤية الرسول «صلعم» أو مشاهدته في نومهم وصلواتهم، وكذلك الذين يتصوّرون رؤية سيدتنا مريم العذراء على جدران الكنائس أو في الأديرة.

الشعوب المهزومة تتجه في لحظات الضعف، إلى مثل هذا السلوك وتلك الأفكار، ولكن أن تصبح نمط حياة وسلوكاً يومياً فتلك كارثة ليس ما بعدها كارثة، فمن ينقذنا من فكر الدروشة والمهرجين والمتخلفين؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى