سطوة الذاتية والتباس الحدود بين الشعريّ والسرديّ «لعبة الكون» للعُمانية أميرة العامري… محكيّات مقتضبة تُسائل المسكوت عنه
محمد العناز
تصرّ الشاعرة أميرة العامري على مقاومة الضجر بالانتظار، رغبةً منها في تخليص العالم من قسوته. وتصرّ على أن تلعب معه نكاية في وجه الموت الذي يجثم على قمر يتحنّن على نجومه، كي لا تسقطه مزن تائهة في السقم. هذا السقم الذي يروّع روح شاعرة مفتونة بالتحليق، ويجعلها تختار الإقامة في الـ«ما بين بين»، باحثة عن ممكنات الحياة في الكون وراصدة إياها. والكون معادل موضوعيّ ـ هنا ـ للرغبة في الانعتاق من المحلية التي تخنقه، وتحول دون تحرّر أجنحتها.
هل يرتبط الأمر بنزوع نحو التمرد؟ أم بتحكم حيوات معينة فيناً؟ أم برغبة دفينة في أن نتمكن من مراوغة الحياة باللعب؟ ليصير هذا الأخير أيضاً دلالة على الحيرة، والرغبة في القطع مع الذاكرة.
تقول الشاعرة:
أرفرف بين ضفاف الكون
أحطّ رحالي بين نجم وكوكب
أدمّي المسافات، وأقفل الثغرات
لتغدو الحياة واحدة
أديرها كيفما أشاء.
فالشاعرة تستثمر جمالية السرد من طريق توظيف أفعال تمنح النصّ ديمومة وحركية، وتترجم انفعالات الذات التي تتقنع خلف أنا لا تعبر عن سطوة الذات الشاعرة، بل تنحو صوب «أنا» تنقل غياب ما وقع في واقع مفترض يحاكي جسداً عربياً أنهكه الانتظار. هذه السردية التي تمرّر عبر وسيط شعري يمنح القصيدة خصوصية جمالية لافتة فالحياة تدور مع عقارب الزمن، والـ«أنا» تصير ـ في تعقبها ـ عقرباً حقيقياً ينفث سمومه في ما تختاره من تفاصيل كي تنقذ بها ما تبقى من دورتها الأخيرة، عسى أن تشفى من وخز العيش «كأميرة وكَّلت إمارتها للحياة… فظفرت».
أتحيل الحياة ـ هنا ـ إلى الإقامة فيها على نحو مختلف وسط الجنون المريض بالسلطة، وهذه السلطة أهي سلطة المرأة التي تكمن في أنوثتها، والتي تحول الكون إلى قصيدة تطل من شرفاتها الحياة على نفسها بألوان جديدة تقاوم الدم الأحمر القاني الذي يلون الأرض؟ ربما كانت الحياة هي الـ«أنا» فحسب، وتكشف هذه الـ«أنا» في هذا الديوان عن قلق وجودي يتبدى من خلال بلاغة الانتظار التي تختم بها مقاطع الديوان في نهاية تدفقاتها الشعرية.
تقول:
وأنا لا أزال انتظر
وأترقب يدك الحانية
تنتشلني من حافة الاندثار.
فالترقب خاصية تكوينية في بنيات المحكي الشعري الذي يندغم في الشعر ليشكل قصيدة مغايرة، تسائل واقعها المحطم، ونتوءاته، وتمزقاته في أفق تجاوزه نحو كون مفارق لما هو كائن. فالـ«أنا» ترفض الحقيقة المأسوية التي انتهى إليها حلمها، وحلم الكائنات التي تعيش في إماراتها الملونة بحيوات منطفئة تشتعل فقط بلوثة الحب الذي يغدو نقطة الضوء الأخيرة، لتتملك أجنحة تبث بها «الهوى والوجد بدون تكلف أو خيلاء»، فالـ«أنا» الشعرية تُسِرُّ كيف يُعتقل دم الأنوثة فيها، ويُغتال نبضه الهائم، لا لشيء، فقط لأنها كانت تسعى إلى الحياة، فاستهدفها الشقاء. هذا الشقاء الموجع يأسر الدفقات الشعورية التي تنمو بتؤدة، وكأن الـ«أنا» معنيّة بالكشف عن سنوات الوجد والعزلة التي فقدت فيها مصيرها المؤجل مثل «سمفونية تبعثر سلمها». فهذا اللعب المجازي ما هو إلا تعبير عن حالات القلق والسؤال تجاه «مساءات مثخنة بوجع الغياب» على رغم ثقل الذاكرة وصورها المنمقة التي تضيء قليلاً من عتمات و«مباهج الروح قبل أن يداهمها الطوفان».
يحضر الطوفان هنا برمزيته التاريخية المرتبطة بإنقاذ الإنسانية من الخطيئة، وفي الوقت نفسه، يحضر بوصفه تعبيراً عن المحو الذي يتهدّد الكون برمّته، ويحمل معه خراب الذات، وأيضاً بوصفه خلاصاً من الحياة المثخنة بالغيابات، والجراح والتمزّقات بحثاً عن الموت الرمزي من أجل حياة بديلة تجابه مرارة الواقع. أيعني هذا أن تعدّد دلالة الطوفان تعبير عن حالات القلق الرهيبة التي تجتاح مساحات الذات في الديوان؟ أم أن الذات المتخيلة تطوق الواقع بالمجاز الذي يرتبط في بنيته هنا بالاستعارة الكلية، لا بالاستعارة الجزئية بوصفها تعبيراً عن التمرد؟
تقول الشاعرة:
أيّ مصير وأيّ رحيل
ذاك الذي احتفى بتشظّي جراحنا
فقد امّحت تضاريس الدرب
وانكشف وجه الحلم العتيق
سنلملم أشلاءنا ميمّمين غفوة
تصطادنا
قبل انحناء قوس العمر.
تحدق الذات في نهاية النفق، ولا ترى سوى رجولة تأنثت في يد طفل تدهشها بسالته، وتلويحة يده بحجرة صغيرة، ونخوة بطولته الثائرة، وجسارة «محارب ناقم بسخط على رجولة تأنثت» فاللعب هنا سيصل إلى ممكناته القصوى، ليلعب بالموروث مدمراً أنساقه، وهاتكاً حجاباته المخفية في ثنايا الصورة المقدسة. فالـ«أنا» السردية هنا تجسّم بنية ثقافية في جسد الشعري لتفتت الصورة المتوارثة، وتكشف عن خيبة أمل الأم التي تنظر إلى بطلها الثائر الصغيرة نظرة حالمة سرعان ما تتهشم بفعل تقهقره، وانتهائه إلى رجولة غير مكتملة.
إذن، لماذا تقوّض الـ«أنا» السردية هنا مفهوم الرجولة؟ ألا يرتبط هذا الأمر برفض مبطن لاختزال عبثي لما آلت إليه النخوة العربية، واختزال الرجل «العربي» في فتوحاته التي ترتبط بالبحث عن إقامة دائمة في هشاشة الجسد، حاجباً نظره عن تحولات الواقع، وهشاشة الحياة في داخله، لا سيما في ظلّ تشرّد طفل القصيدة الذي لا يحمل من الدم العربي سوى الاسم الجريح بالاضطهاد والنفي والاغتصاب والتشوّهات الخلقية والنزيف والعطب السريع لجسد أنهكه الرحيل.
تقول الشاعرة:
نتعمد الضياع
بفطنة وكبرياء
بين دهاليز الحياة
ننتعل الحبّ
لنسلخ به
آلامنا وهمومنا
نقفز فوق حدود الكبت والهزيمة
كدبابير تتسمّر
بفرح شفيف
إلى آخر صيغ النهاية
لم ندرك يوماً
أن الندم سيباغتنا
ليفصّل لنا
تاريخنا الباذخ
بانتقام مؤذ…
فقصيدة اللعب مؤذية جدا لدرجة أن القارئ يشعر بالتباس الحدود بين الشعري والسردي في هذا الديوان، على الرغم من لجوء الشاعرة إلى تقنية التقطيع المشهدي في رغبة منها للعب على جماليات الغرافيك، فالصورة هنا أشبه «بعنقود صور»، كما يقول بشلار، حيث تتشكل من مجموعة من الصور الجزئية لتمنحها في النهاية صورة إنسانية مكتملة تفضح صورنا المزيفة التي تدعي الصفاء، وسط سراديب الحياة الملتبسة، لكن هل يكفي الـ«أنا» انتعال الحب لتجاوز واقع الألم، ولسعات الكبت والهزائم. كل هذا والأنا تواصل سرد ما يمكن أن يكون واقعا في المستقبل لتنجو القصيدة من تكرار الزمن الماضي يشدها التوق إلى حاضر المستقبل بتعبير بول ريكور.
هنا، نستوعب مدى حضور مكوّن الزمن في بنية الشعري كتعرية لتشوّهنا في سيرورتها، حتى أضحى التمييز مستحيلاً أمام حياة تُحمل بين الكفّين ليتوقف كل شيء، وتعود الـ«أنا» إلى مخدعها غير عابئة بالندم مادامت أفعالها تعد ترجمة لرغبات نتصوّرة بمحض اختيارها، فهي تصارع القدر العاثر في منطقة الاحتمال التي تتوزع بين الإقامة في «التاريخ الرث» و«الحاضر المهندم»، وتصبو إلى «اللاقول/ واللاحس/ واللاشيء». فالعدمية هي ما آلت إليه الأنا في تصويرها لحياة كانت تعزف فيها أغاني الحياة، لكن الرحيل جعلها تقف عاجزة عن سماع هذا اللحن الذي فقدته نهائياً برحيلها، كاحتجاج على انطفاء الأمل في أن يبث أحد ما الحياة في شرايين الحياة.
فالذات تنهار فريسة لفخ العزلة من جديد، وكأن قدرها أن تقاومها شعرياً لتسدل الستارة عن فصول شعرية تنصهر عميقاً في الذات لتنتهي إلى نهاية بالأصفاد مستدينة الفرح.
تقول الشاعرة:
أسدل الستارة
وبلغ كل شيء عاقبته
ليس من بعد ذلك رضوخ
وليس للصفح أقفال
فختمت النهاية بالأصفاد
كنا ننثر الفرح في وجه الوجوم
واليوم نستدين بعضه
ممن أمددناهم به
كيف يمكننا أن نستدين الفرح من داخل هذا الكون الشعري القائم على المفارقة؟ وكيف تلتقي النهاية المختومة بالأصفاد بالفرح؟ هل العزلة ـ إذن ـ العالم الذي يمّحي فيه التناقض، أو يعترف به بوصفه الحقيقة المكونة له؟ ربما تكمن الإجابة في حجم السخرية التي تصوّر بها الـ«أنا» انهيارتها في مجابهة الواقع ـ الحلم عبر التخييل الذي يشعرنا الغربة بمآلات الذات، بما طالها من تشققات، وما صاحبها من إحباطات قوضت بواطنها، خاصة مع تسلط السيد، واغتصابه منطق الحياة بمنطق الطغيان الذي يلتصق ـ في نهاية المقطع ـ ببلاغة التناوب، إذ يتحول الجسد الخاضع لسلطته، إلى جسد طاغ يستعيد أدوات الاستبداد، ويتحول الخرس إلى صوت كاسر أمام جبروت البطولات المهزومة. إن التصوير الشعري هنا يتبدى من خلال قدرة الـ«أنا» الشعرية على سرد بنيتين مختلفتين في كل شيء، لكنهما تنتهيان إلى النهايات نفسها. فالخرس أحياناً قد يكون أبلغ من الكلام، لا سيما إذا تعلق بحاجة الروح إلى بلاغة رتق أوجاع جسد معذّب مكسور الجناحين.
تقول الشاعرة:
يا سيدي
جعلتني أعتنق الأحزان
وازدحام كلماتك الرعناء
في أذني
ألقت بذوراً من الألم الموجع
آه لو تعلم
أني من بعدك
كم أتقنت لغة الطغيان
فلن أمضي مكسورة الجناح
ولن أدفن خرساء
على ضفاف بطولاتك الفانية…
فالعزلة تصل إلى أقصى مستوياتها عندما تتوشّح بسواد يستحيل معه تحقيق إمكان أن يخفق الانتظار. لا ترى الـ«أنا» الشاعرة ـ السردية خلاصها سوى في العزلة البيضاء في أعالي قمة جبل الروح، حيث سدرة المنتهى تلوّن السواد بالنوراني، كتعبير عن قسوة الواقع الأرضي الذي يحتاج إلى مزيد من الحب. تقول الشاعرة:
يا مالكاً غبطتي وأشجاني
أما زلت تعتقني بولهك
وتأسرني بين مقلتيك
متحكماً بارتحالي وإيابي
سأضمحل من سطوتك
فارفِق بخضوع الروح لك
كي لا يصيّرني شغفك للزوال
هذا الانوجاد في قلب المعنى يمنح للذات قليلاً من الأمل في أن يغطي اللون الأحمر بدلالاته ورمزيته ما تبقى من السواد، حيث يصير الحب المكان الآمن. تقول الشاعرة:
فالقلب لا تستغفله المداهنة
فيه مخبأ للأشياء النفيسة
فيمنح هواه لمن هوى
ويسدّ بابه عن كل زيف
فالشاعرة لا تطاوعها الحياة إلا بوجود الحبّ الذي يمحنها الحق في العيش مع الآخرين. عازفة عن كل أوجاعها التي تجابه بها عزلتها المهشمة باحثة عن ركن قصي تلجأ إليه كي تسترجع صوت صمودها المنهك:
بعدما اجتاحتها حشرات صاخبة
برعب نووي
وتدّعون أنها الحرية!
لماذا ترفض الذات هنا الحرّية المزيفة؟ إنها تسخر من كل صورها الموجودة في مناطق معتمة بالقتل، غير أنها تنهي قصيدتها الطويلة بالتغني بوطنها الأمّ الذي ترى فيه ألف التاريخ. إن الشاعرة أميرة العامري في «لعبة الكون» تنزع نحو كتابة تتحرّر كثيراً من كل التصوّرات الجاهزة حول الكتابة لتكتب نصّاً طويلاً يكشف عن تأملاتها في الحياة بلغة سردية تندغم في الشعري لدرجة أننا لا نستطيع أن نقبض على القيمة المهيمنة في النصّ.
إننا أمام تجربة خاصة على مستوى الموضوعات التي تعمل على دسّها داخل زمن القصّ الشعري، بوساطة مكوّنات الحكي، وكذا على مستوى بناء الدفقة الشعورية التي يهيمن عليها الفعل السردي الذي يساعدنا في السفر صحبة الـ«أنا» السردية التي تصوّر هشاشة العالم، إذ تتمظهر من خلال مساحات الـ«بين بين»، فالذات التي تحضر في هذا الديوان متخيلة، ما عدا الإنارة التي أقفلت بها الشاعرة قصيدتها السردية الممتدة، وبالتالي، فإن نصّ أميرة العامري منفلت، عصيّ مورق راصد تحولات الرؤيا في هذه التجربة التي أراهن إذا ما تحررت أكثر من سطوة الذاتية أن تكون تجربة لافتة في الشعرية الجديدة في سلطنة عُمان.
باحث مغربي