«معجزة بوتين» احتمالات النجاح ومخاطر الفشل…
سومر صالح
هل هي الحلقات المفرغة لأزمات «الشرق الاوسط» أم العقلانية التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اقتناص لحظة مصيرية في مستقبل العلاقات الدولية لطرح مبادرته السياسية التي تقوم على العمل لخلق جبهة موحدة من الدول الفاعلة في الأزمة السورية ضدّ التنظيمات الإرهابية؟ خصوصاً السعودية وتركيا وقطر، إلى جانب إيران وسورية والعراق، للتصدّي للخطر الداعشي، وهي معجزة بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، بل أقرب إلى حالة «البجعة السوداء» في السياسة، وتمثل خياراً كان يصعب التنبّؤ بوقوعه، لا سيما بعد تعقيد وتشابك مستويات الأزمة السورية، حيث تستند تلك المبادرة إلى «تحالف الضرورة» بين الأطراف الإقليمية المتحاربة لوقف تمدّد الإرهاب الداعشي الذي بدأ يهز أمن المنطقة برمّتها، ويبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الطرح هو خيالي أو مثالي إلى حدّ ما، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن أسباب طرح هذه المبادرة وحيثياتها، فروسيا دولة فاعلة وعقلانية ولا تبني سياستها إلا على الوقائع، فما بال المرء إذا ما كان الأمر يتعلق بأزمة مثل الأزمة السورية بأبعادها الإقليمية وتداعياتها الدولية وتأثيرها المباشر على الأمن القومي الروسي…؟
من حيث المبدأ هي مبادرة سياسية، الأمر الذي يعني أنّ نجاحها مرتبط بموافقة الأطراف المعنية بشكل مباشر، أيّ سورية وحلفاؤها من جهة والتحالف الخليجي التركي وملحقاته من جهة أخرى، وهذا يعني بالضرورة أيضاً موافقة الطرف الأميركي الراعي الرسمي لهذا الحلف، حيث استندت تلك المبادرة في المبدأ العام على تحالف الضرورة الذي يقتضيه وقف تمدّد داعش الإرهابي، وخصوصاً في الخليج العربي، أما من حيث المضمون فهي مبادرة روسية لنزع فتيل الحرب الإقليمية الشاملة في المنطقة، وخصوصاً إذا ما قرّرت تركيا العدوان البري على الأراضي السورية بذريعة منع إقامة دولة كردية أو درء خطر «داعش» عن حدودها، أو إذا ما قرّرت «إسرائيل» جنوباً الانخراط برياً في مواجهة الجيش السوري بعد فشل «عاصفة الجنوب» التي تدار «إسرائيلياً» من غرفة عمليات «الموك» الأردنية، عدوان مثل هذا بشقيه «الإسرائيلي» و التركي يعني حرباً إقليمية قد تتوسّع إلى أبعد من ذلك… حينها ستكون روسيا أمام خيارين إما الدعم المباشر لسورية، وبالتالي الدخول في مواجهة مؤجلة مع الناتو شمالاً، أو الدخول لوجستياً في الجنوب، وبالتالي تأزيم العلاقة مع أميركا وما يحمله ذلك من مخاطر على حدودها مع أوروبا.
إذاً هي حالة «الشرق الأوسط» المعقدة التي دفعت بالرئيس بوتين إلى طرحه، مستفيداً من حاجة الدول الفاعلة في «الشرق الأوسط» إلى من يخرجها من أزماتها، فالسعودية تائهة في خياراتها، عينها على إيران ما بعد انجاز الاتفاق النووي، ومباحثات ملفها النووي في فيينا توحي برغبة أميركية جادّة في إيجاد تسوية سلمية لبرنامجها النووي، وبالتالي الاعتراف بها قوة لها مصالحها الإقليمية المشروعة، وهو ما يمثل ما يشبه «فوبيا» خليجية عامة. وتركيا أيضاً تعيش «فوبيا» الدولة الكردية في الشمال السوري، وبالتالي لم يبق للأكراد لإنجاز حلمهم التاريخي إلا الكانتون التركي، ما يضع تركيا في مأزق تاريخي.
وإذا ما أضفنا أنّ الدولتين الإقليميتين تركيا ومملكة آل سعود قد وصل بهما الحال إلى ما هو جراء سياستهما في الأزمة السورية، فكان حلم السعودية إسقاط الدولة السورية وبالتالي تطويق إيران وضرب «حزب الله»، وحلم الأتراك إسقاط الدولة السورية وجعلها أداة تحارب بها مشروع الكرد السوريين إذا ما فكروا بإقامة مثل هذا الكانتون السياسي، غير أنّ وقائع الاشتباك على الأرض السورية وصمود الجيش وتلاحم المقاومة اللبنانية معه أفشل المخطط الأميركي الخليجي التركي في سورية، مضافاً إليه التغيّرات الجيبولتيكية الحاصلة على مسرح العلاقات الدولية الذي دفع بأميركا إلى تغيير استراتيجيتها في «الشرق الأوسط»، واضعة في حسبانها ثلاثة أهداف استراتيجية، وهي إنجاز اتفاق نووي مع إيران بأقلّ الخسائر الممكنة وبأسرع وقت ممكن، وضمان أمن «إسرائيل» في المنطقة، وبقاء ملفات الطاقة الخاصة بـ«الشرق الأوسط» على ما هي عليه في انتظار تبلور الاستراتيجية الأميركية في شرق آسيا والاكتفاء بحظر النفط الخليجي إلى الصين…
إذاً الروس طرحوا مبادرتهم مستندين إلى عاملين: أولاً عامل الضرورة بمعنى الحاجة الملحة لطرح سياسي جدي لحلّ الأزمات المتقاطعة لدول «الشرق الأوسط»، بما يجنّب الانفجار الإقليمي ويبعد قليلاً الخليج عن الحضن «الإسرائيلي»، الذي يعتبره الخليجيون خياراً جدّياً في مواجهة «داعش» وإيران، وهو يشكل خطراً مباشراً على الأمن القومي الروسي، وخصوصاً في قطاع الطاقة إذا ما تمّ بناء خطوط نقل نفط وغاز الخليج إلى «إسرائيل» ومنه إلى أوروبا، والعامل الثاني هو «المناورة» بمعنى تقديم روسيا لنفسها على أنها البديل الدولي الأمثل لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، فهي من جهة ضامن لتوازن المصالح الإقليمية ومن جهة أخرى ضامن لصوغ نظم الحكم المنبثقة من شرعية هكذا تحالف ضدّ عدو واحد اسمه «داعش».
يبقى السؤال المطروح على ماذا يراهن بوتين في نجاح مبادرته تلك؟ قلنا إنّ نجاح المبادرة يقتضي موافقة الأطراف الإقليمية وموافقة الطرف الأميركي، وعلى افتراض المرونة التي مارستها القيادة السورية، فالأطراف الإقليمية على ما يبدو أوصلت رسائل سياسية واضحة برغبتها في التخلص من عبء الأزمة السورية، فزيارة محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي وابن الملك إلى روسيا يمكن وضعها في هذا السياق، أمّا تركيا تبدو خيارات إعادة العلاقات مع دمشق أكثر فاعلية لتركيا في مواجهة حلم الأكراد في دولة مستقلة وأقلّ تكلفة من حرب مزدوجة على جبهتين مع الجيش السوري والبيشمركة، وما يعني ذلك من احتمالات اندلاع انتفاضة كردية داخل تركيا، وقد تكون إعادة إحياء تلك العلاقات من بوابة أحد الأحزاب المعارضة لأردوغان، ما يجنّب تركيا الحرج قليلاً، أما أميركياً فيعوّل بوتين على قدرة موسكو في تأمين خروج آمن للولايات المتحدة من «الشرق الأوسط» بما في ذلك ضمان أمن «إسرائيل»، فهي من جهة ضامن لحلفائها وخصوصاً سورية من الدخول في مواجهة مفتوحة ضدّ «إسرائيل»، ومن جهة أخرى يشكل اليهود الروس ما نسبته 19 في المئة من اليهود الذي هاجروا إلى فلسطين المحتلة، الأمر الذي قد يغري واشنطن في الدخول بنقاش عميق مع موسكو حول تلك المبادرة، ومستفيدة من عدم الحماس التي أبدته واشنطن حول دخول تركيا في حرب مع سورية بما يعني إمكانية انفجار الوضع الإقليمي ونسف الاتفاق النووي بين الغرب وايران، والمخاطر الكبيرة على أمن «إسرائيل» والعودة بالاستراتيجية الأميركية إلى نقطة البداية…
طبعاً هنا علينا توقع دعم مطلق من أميركا لكافة التنظيمات الإرهابية في «الشرق الأوسط» حال التوصل إلى تفاهم روسي أميركي بشأن مبادرة الرئيس بوتين، بما يعني إطالة أمد الصراعات في «الشرق الأوسط» وإشغال القوة الروسية بمشاكله وتحويله إلى «بؤرة مزمنة» للإرهاب.
يبقى إذاً أنّ نجاح المبادرة مرتبط بعقلانية الأطراف الإقليمية وقدرتها على تحديد أولوياتها وقدرة الديبلوماسية الروسية على إقناع الولايات المتحدة بتلك المبادرة، وهذا يعني مساومات وتسويات أخرى على ساحات اشتباك أخرى مثل أوكرانيا والدرع الصاروخية الأميركية والتهديد النووي الروسي في القرم والعلاقة بين روسيا والصين… أما إذا ما فشلت تلك المبادرة فسيكون «الشرق الأوسط» أمام لحظات مصيرية تهدّد كياناته السياسية من خطرين: المواجهة الإقليمية المفتوحة وانفجار برميل البارود الشرق أوسطي، إضافة إلى انهيار الأمن جراء التمدّد الداعشي وتحوّل المنطقة إلى بؤرة للإرهاب العالمي، ولكن من ناحية أخرى فسيسجل التاريخ ذكاء وحنكة الديبلوماسية السورية ومرونتها وقدرتها على إحراج الخصوم، الأمر الذي سيفاقم مشكلاتهم الداخلية… ويحرجهم أخلاقياً وسياسياً أمام شعوبهم.