هل ينجح مؤتمر الطاقات الاغترابية في تجاوز القطوع أو يقع في فخ الانقسامات
علي بدر الدين
لم يعد جائزاً أو مقبولاً أن يبقى الملف الاغترابي مادة خلافية تتجدّد مع كل وزير جديد لوزارة الخارجية والمغتربين، الذي يقدم رؤيته وتصوراته لمستقبل الاغتراب والإيحاء بجدية تعامله مع هذا الملف ومقاربته له، وامتلاكه القدرة على حل ألغازه وفكفكة قطبه المخفية المعقدة، وإنقاذه من انقسامات وصراعات وتشرذم تتحكم في مسيرة المغتربين منذ عقود من الإهمال والتهميش والفشل من حكومات متعاقبة وعشرات وزراء الخارجية واللجان التي لا تعدّ ولا تُحصى وأنتجت عدماً أو صفراً في أفضل الأحوال. وبدلاً من حلحلة العِقدْ، ازدادت تعقيداً وتعمقت الانقسامات وتشتت الطاقات، لانعدام وجود سياسة اغترابية وطنية واضحة وشفافة، ولانغماس مغتربين في بؤر التوترات والنزاعات الطائفية، التي وجدت أرضاً خصبة وجاذبة في كثير من المغتربات التي نمت فيها روابط وتجمعات وجمعيات ظاهرها اغترابي وطني، وباطنها سياسي، طائفي، فئوي.
هذه التوجهات غير الوطنية لم تأت من عدم أو فراغ إذ تشكل امتداداً لحال الانقسام، وعدم الاستقرار السياسي والطائفي المزمن في الوطن الأم، وبسبب عجز العهود والحكومات عن وضع حد لها أو تجميدها أو إيجاد الحد الأدنى من المعالجات والحلو لكثير من القضايا والملفات التي ظلت عالقة بين سندات السياسات الخاطئة ومطرقة الفوضى والأجواء المشحونة والعجز المتمادي من أمراء السياسة والطوائف وأصحاب الحل والربط والمصلحة. والأكثر سوءاً وإيلاماً أن كل وزير جديد للخارجية، وبدلاً من أن يبدأ من حيث انتهى سلفه، يعمل عن قصد أو عن غير قصد على طيّ صفحته وإعادة خلط الأوراق ورسم خريطة طريق جديدة «للمعالجة» وفق حساباته وربما توجهاته السياسية وما يمثله من «أجندات» وبرامج عمل، لاعتقاده أنه سوف «يشيل الزير من البير»، وأنه قادر على اجتراح المعجزات، وأنه سينجح حتماً حيث فشل أسلافه في أخذ العبر والإفادة من التجارب ومعرفة مكامن الاخفاقات والنجاحات، ومن دون فهم مزاج وتوجهات وولاءات المغتربين الذين سلكوا مسارات سياسية طائفية تحت سقوف مشبعة بالفئوية والهيمنة والتحريض والتعبئة لا يمكن تجاوزها فهي من وجهة نظرهم الأصح ولا يمكن لأي كان مهما حاول أن يضخ مواقف وعناوين وشعارات وطنية فضفاضة أو برّاقة باتت جزءاً أساسياً من سلوكهم ومن المحرمات التي يجب ألا تُمس.
نعتقد أن التسرع والاستعجال في معالجة الملف الاغترابي الشائك والمعقّد جداً لن يؤدي إلى النتائج المرجوة، وإن تكن النوايا حسنة والمقاصد شريفة والغايات نبيلة، والجدية متوافرة. غير أن التمنيات والآمال والنظريات المسبقة من دون الاعتراف بالوقائع والحقائق والتراكمات ستصطدم حتماً بالحواجز الطبيعية والمصطنعة وسوف تفشل وتذهب أدراج الريح.
أكثر من ذلك، ستضيف مشكلة جديدة، خاصة أن المتربصين كثراً وينتظرون الفشل الآتي ليتكامل الإخفاق ويبقى المغتربون من مقيمين ومغتربين مجرد دمى تحركها العصبيات الطائفية. وتتقاذفها القرارات والإجراءات والتعميمات العشوائية التي تخيب ولا تصيب.
بما أن «الشيء بالشيء يذكر»، فإن وزارة الخارجية والمغتربين التي تتحضر لانعقاد مؤتمر «الطاقات» الاغترابية في بيروت، بعدما عقدت مؤتمراً مشابهاً للبعثات الدبلوماسية والقنصلية اللبنانية في الخارج، وقعت في فخ الدعوات التي وجهتها إلى مغتربين من دون آخرين، والإشكالية تكمن في الاختيار وفي مطابقة وصف الطاقة الاغترابية، وفي المواصفات التي على أساسها يدعى هذا المغترب ويغيّب الآخر، وفي حجم المدعوين العددي وهل يتناسب مع حجم أعداد المغتربين الموزعين على خريطة العالم وتفوق أعدادهم عشرات الملايين ويمثلون الطوائف الثماني عشرة في لبنان.
المقاربة بين مؤتمري البعثات الدبلوماسية والطاقات الاغترابية تبدو معدومة شكلاً ومضموناً، لا سيما أن كلفة المؤتمر الأول تذاكر السفر والفنادق والمتممات كلها، هي على عاتق الدولة ، في حين أن كلفة المدعويين إلى مؤتمر الطاقات على نفقتهم الخاصة، وأن الديبلوماسيين معروفون بالأماكن والأسماء والانتماء الطائفي، بينما الطاقات الاغترابية مشتتة الأماكن ومن طوائف متعددة ومناطق شاسعة، ولا مواصفات حددتها الوزارة يمكن اعتمادها لدعوة هذا المغترب أو ذاك.
تبدو واضحة صعوبة تأمين حضور لبناني اغترابي متوازن وتمثيلي، علماً أن هناك معلومات متداولة عن أن الوزارة اعتمدت على المؤسسة المارونية للانتشار فحسب في اختيار الأسماء وتوجيه الدعوات وإطلاق صفة الطاقة الاغترابية دون سواها من المؤسسات الروحية أو القيادات التمثيلية للمغتربين أو المؤسسات الاغترابية وفي مقدمها ومن أهمها الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وتعتبر، على الأقل في الشكل، الممثلة الشرعية الوحيدة للمغتربين على ما ينص نظامها الداخلي، والمعترف بها على المستوى الرسمي.
مصادر في الجامعة استغربت تغييب الجامعة كمؤسسة رسمية اغترابية عن المشاورات التي قامت بها الوزارة، وعدم التنسيق معها على الإطلاق، وكأنها غير موجودة، وهذا يعني في نظر المصادر عينها أن وزير الخارجية غير معترف بوجودها وشرعيتها المستمدة من الاعتراف الرسمي لها ورعاية وحضورها مؤتمراتها. وعبرت عن أسفها وانزعاجها من هذا التعامل مع الجامعة وللإهمال المتعمد لها في موقف غير مسبوق على امتداد منذ 1960.
وخشيت المصادر من أن يكون انعقاد مؤتمر الطاقات الاغترابية بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة عليها، علماً أنها شهدت عصوراً ذهبية لناحية ما حققته من إنجازات وخدمات موثقة للمغتربين. ولفتت إلى أن تعرضها لبعض النكسات والأزمات في ظروف قاهرة يشهدها لبنان أفقدها بعضاً من وهجها ودورها وفاعليتها وأدخلها البعض في أنفاق ومتاهات سياسية وطائفية وصراعات، غير أن ذلك لا يعني أنها أصبحت من فعل الماضي وأن التعامل معها جائز بهذه الطريقة التي تعمق أزماتها ومشاكلها. وأشارت المصادر إلى أنه كان في إمكان الوزير باسيل، الذي نقدّر، أن يدعو إلى خلوة اغترابية حوارية حول الجامعة يشارك فيها «المختلفون» إذا صح التعبير ويعمل على توحيدها بدلاً من محاولة تجميد عملها أو وضعها على الرف أو البحث عن تسميات جديدة بديلة منها وتشكيل «لوبيات» اغترابية.
وأرى أن الوزير باسيل الذي أراد من مؤتمريه الدبلوماسي والاغترابي أن يعبّر عن اهتمامه رعايته للجاليات اللبنانية في الخارج اللجوء إلى خيارات أخرى أقل أعباء وتداعيات متوقعة من المؤتمر، وبدأت مؤشراتها تطفو على السطح حتى قبيل انعقاده، فكيف سيكون الوضع بعد الانعقاد وانكشاف الخبايا وظهور المفاجآت ومعرفة أسماء المشاركين وحجم تمثيلهم للملايين من المغتربين والمنتشرين والمنحدرين من أصل لبناني ومدى تطابق مواصفاتهم مع صفة «الطاقة الاغترابية» مع الاحترام لجميع المدعويين.
كان في إمكان الوزارة أن تتعاون وتنسق لإنجاح المؤتمر وتفادي الثغر والعقبات والاعتماد على مديرية المغتربين والتعاون والتنسيق مع الجامعة الثقافية، والاستناد إلى إحصائيات موسعة وشاملة وموثقة من السفارات والقنصليات اللبنانية ومن الأندية والجمعيات والروابط الاغترابية التي تمثل معظم الطوائف وتتوزع على سائر القارات. ولا ضير من تأجيل المؤتمر إلى حين اكتمال المشهد والخروج من دوائر الاتهام والانتقائية والاستنسابية والإلغاء والتغييب المقصود وانعدام الثقة والمعايير المطلوبة.
أعربت مصادر اغترابية عن خشيتها في ظل الأجواء الملبدة التي تسبق انعقاد المؤتمر يومي الجمعة والسبت المقبلين من عدم مشاركة بعض المغتربين المدعوين في المؤتمر المذكور لاعتبارات معينة، ما يعني أن المؤتمر سيفقد الكثير من مضمونه وينحيه عن غير قصد إلى مطرح آخر.
لا يمكن استباق موعد المؤتمر ومناقشاته ونتائجه أو إصدار أحكام مسبقة، إذ ستحصل تداعيات قد يكون أبرزها اتخاذ البعض قراراً بالمقاطعة.