خليل مطران أوّل الرومانسيّين العرب المناضلين بالكلمة والرأي لاستنهاض الضمير العالميّ
كتب حازم خالد من القاهرة: ظهرت مدرسة الإحياء والبعث في أواخر القرن التاسع عشر بريادة محمود سامي البارودي وأخرجت الشعر من حالة التردي التي عاناها طوال فترة حكم الدولة العثمانية، وكان ظهورها بمثابة الوميض في الظلمة وتمثل في المدرسة الرومانيسة التي ظهرت لتكمل خطى مدرسة الإحياء والبعث وتجدد فيه فتهب القريض مذاقاً مميزاً ساهم في تبوئه مكانة كبيرة في ذاك الوقت مما جعل المجتمع يفرد له مساحات استماع وقراءة. وخليل مطران 1872 1949 هو أول الرومانسيين العرب وصاحب تجربة التجديد التي سميت بالرومانسية، فماذا عن حياته؟
بين معابد بعلبك وجدرانها شبّ الفتى، تحيطه الطبيعة البكر والعبق التاريخي. تتلمذ مطران على يد إبراهيم وخليل اليازجي، ليدخل إلى عالم الشعر بينما وقائع الظلم والاستبداد تتراءى أمام عينيه، وكان لذلك أثر في ميله إلى شعر الوطنية والحماسة مستنهضاً همم شعبه لمواجهة سطوة المحتل، إذ عانى لبنان من وطأة الحكم العثماني، ولم يملك الشاعر الشاب إلاّ القصائد ليعبر بها عن رفضه هذا الواقع المزدوج بين رومانسية الاضطهاد وقسوته فتعرض مطران لضغوط ومضايقات من الأتراك كادت تودي بحياته، حتى استحال له العيش في لبنان، وقرر الهجرة إلى فرنسا في عام 1890.
رحلة الحرية
استقل مطران الباخرة ذات ليلة من ليالي الصيف، وحين رست في مدينة الاسكندرية بضعة أيام، التقى سليم تقلا أحد مؤسسي جريدة «الأهرام»، وكان صديقاً لوالده، فأوضح مطران أنه لم يطلب الفرار خوفاً من بطش الأتراك، إنما لمواصلة الجهاد لأجل الاستقلال والحرية. وفي باريس التقى مطران بإخوانه هناك من سورية ولبنان والذين سبقوه في الهجرة والفرار من بطش الحكم التركي.
انخرط مطران في صفوف المجاهدين بالكلمة وإبداء الرأي كي يستنهض الضمير العالمي لنصرة القضية العربية، ما دفع السفير التركي إلى أن يؤلب عليه الحكومة الفرنسية، وتجددت الضغوط والمضايقات، فآثر مطران الهجرة إلى مصر وبقي فيها حتى رحيله عام 1949.
عهد جديد
كان التمهيد للخروج من مأزق حالة الانحدار الشعري يستلزم أن تنهض حركة إحياء وبعث للقصيدة العربية، ومهّدت لهذا الخروج كوكبة من الشعراء مثل البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم ومطران وإسماعيل صبري عبدالله وغيرهم من الشعراء الذين آلوا على أنفسهم تجاوز القطيعة الشعرية التي فسحت المجال لركام من الشعراء والقصائد الهزيلة.
أما مطران فكان من شعراء الموجة الثانية التي جنحت نحو التجديد، مع الالتزام بالتقاليد الشعرية الراسخة. وفي هذا الإطار رأى البعض أن مطران شاعر كلاسيكي مجد تأثر بالرومانسية الفرنسية ونقل حساسيتها إلى العربية الأصيلة التي كتب بها، كما نقل مواضيعها وأساليبها، ولكنه بقي محافظاً على الشكل والأوزان الخليلية والقوافي، منطلقاً من منظاره الخاص للشعر كرؤية فنية للحياة، وضرورته للتعبير عن المشاعر الإنسانية والقضايا المصيرية، إذ كان شاعراً مندداً بالظلم، داعياً إلى الحرية، بينما رأى البعض الآخر أن مطران كان شاعراً أقرب إلى التراث والمحافظة أكثر مما هو شاعر للمستقبل.
انطلاقاً من أن ديوان مطران ارتكز في معظمه على شعر «المناسبات» وبذلك انتصفت الحقيقة بين الفريقين، لتكتمل بأن شعر مطران يمثل عنق الزجاجة أو الحد الفاصل بين الإحياء والتجديد، ولذلك لم ينكر معاصروه دوره الرائد في الشعر والثقافة العربيتين.
وكان لمطران تلاميذه الذين أفادوا من ثقافته وتجربته الإبداعية الرائدة، وبينهم مؤسس مدرسة «أبوللو» الشاعر أحمد زكي أبو شادي، تلك المدرسة التي ضمّت الكثير من الشعراء الشباب في ذلك الوقت، مثل علي محمود طه وصالح جودت، وشهدت صفحات مجلة «أبوللو» أخصب الإبداع الشعري لهؤلاء.
فيما حفّز مطران الشعراء الشباب على الابتكار والتجديد، كان ولعه الشديد باللغة العربية يدعوه إلى حمايتها من التحريف والتهميش الذي كان يسعى إليه المحتلون لإحداث تشتيت وفقدان الهوية للثقافة العربية. ولمواجهة حركة التتريك آنذاك واكبت حركة الإحياء الشعري ظهور إصدارات صحافية اهتمت بقضايا الثقافة والتعليم والسياسة، وعملت على نقل آراء المفكرين والعلماء في مختلف مجالات المعرفة، ولذلك لم يكن غريباً أن يقوم الأدباء وصفوة المفكرين بمهمات صحافية متعددة، إذ ظهرت كتابات صحافية رائدة بأقلام الإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم وغيرهم.
عام 1900 أصدر خليل مطران مجلة نصف شهرية في القاهرة «المجلة المصرية»، واستمر صدور هذه المجلة عشر سنوات، وتميزت المجلة بطابعها الأدبي إلى جانب الدراسات الفلسفية والتاريخية، واشتغل مطران مراسلاً لجريدة «الأهرام» من القاهرة مقرها في الإسكندرية آنذاك، حتى عام 1899، ليتفرغ بعد ذلك لعمله في «المجلة المصرية» لمدة ثلاث سنوات، ويصدر مطران عام 1903 جريدة يومية «الجوائب المصرية»، ولذلك شهد معاصروه مساهماته في تطوير الصحافة العربية، إذ وجّه اهتمامه نحو مواكبة الحدث اليومي وأخبار المال والتجارة والاقتصاد ونشر الروايات المسلسلة والقصائد والدراسات النقدية. وشاركت في تلك الجريدة كوكبة من كبار الشعراء والمفكرين من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأنطوان الجميل وأحمد محرم وغيرهم، وترجم مطران مجموعة كبيرة من المسرحيات والروايات العالمية، فصنع جسراً بين الثقافتين العربية والغربية من خلال انتقائه لكنوز الأدب العالمي.
ريادة صحافية
اختار مطران أن يترك الصحافة بعد 17 عاماً من ممارسته لها ليتفرغ لعطائه الشعري والأدبي، رغم نجاحه في رئاسة تحرير «الجوائب» وتأسيس نهضة صحافية أفادت منها الأجيال اللاحقة. وظل مطران عبر سنوات عمره السبعة والسبعين يؤدي رسالته الأدبية بين الكتابة النثرية والشعرية، فكتب الشعر القصصي والملحمي والرواية التمثيلية، كما عمل مديراً للفرقة القومية المسرحية التي شهدت ازدهاراً للفن المسرحي.
كان ينأى بمسرحه عن الابتذال والسقوط الفكري، فتحققت النهضة المسرحية عبر العديد من الأعمال التي جسدت معاناة الشعب العربي وهمومه وأفراحه ورغبته في التخلص من قيود الاستعمار. كما شغل مطران منصب السكرتير المساعد للجميعة الزراعية الخديوية إذ ترجم مع الشاعر حافظ إبراهيم خمسة أجزاء عن اللغة الفرنسية لكتاب «موجز علم الاقتصاد».
في عصر مطران تعدّدت الألقاب. فهناك شاعر السيف والقلم وشاعر النيل وأمير الشعراء. ولقب مطران بشاعر القطرين تقديراً له على عطائه الشعري. وكانت تجمعه صداقة حميمة بشوقي ولم تكن تمر مناسبة من دون أن يكتب قصيدة لشوقي أو أولاده. ومع ذلك كان يستشعر اضطهاداً ما وإحساساً بالمرارة، ربما لابتعاده عن وطنه لبنان. عاش حياته في مصر، رجلاً هادئاً وقوراً لا يجد غضاضة أن يكون عضواً في مدرسة «أبوللو» التي يترأسها تليمذه أبو شادي. وبذلك ابتعد مطران عن المماحكات النقدية، أو الرغبة في تمجيد الذات، أو افتعال المعارك الشخصية، ويكفي ما قاله عنه شوقي: «هو صاحب المنن على الأدب العربي». لم يكن مطران شاعر القطرين فحسب، بل أول الرومانسيين الكبار.