عرض تاريخيّ للإصلاح الدينيّ… خروجٌ بالعقل من الخرافة والخوف والجهل 2/1

كتب محمد زكريا توفيق: أطلقت النهضة الأوروبية، قوتين هائلتين، غيّرتا العالم: الواقعية والفردية. مهما تكن صورهما المختلفة أو أماكنهما المتعددة، فإن وجودهما يعني امراً واحداً، هو سقوط ثقافة العصور الوسطى وبداية عصر الحداثة.

تقول نظرية كوبرنيك إن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس. غيرت النظرية هذه تصورنا لهذا الكون وقوّضت ما تقوله الكتب السماوية عن مركزية الأرض وعلاقتها بالكواكب والنجوم. ولم تدع اكتشافات فيسكو دي غاما وماجلان وكولومبس مجالاً للشك في كروية الأرض، وحولت طرق التجارة من البحر الأدرياتيكي إلى المحيط الأطلسي. تدفق أنهار الذهب من أميركا والأراضي المكتشفة حديثاً، أفسح الطريق لظهور الرأسمالية. وساعد اختراع الطباعة في ألمانيا، في تداول الأفكار، وساعد أيضاً في تداول أسعار العملة وشيكات البنوك والنشرات التجارية. عائلات مثل المديشي، فوجرز، وتشيجي، أقامت مراكز للفنون في فلورنسا، أوغزبرغ، وروما. شجعت التعلم وتدعم الفنانين والأدباء والشعراء والموهوبين بالرعاية والمال والكلمة الطيبة.

الواقعية بالنسبة إلى الإيطاليين، تعني نظرة جديدة بسيطة للطبيعة والعالم حولنا والعودة إلى الحياة الهيلينية وافرة الثراء الفني والفكري. زيوس أم يهوا، إيزيس أم ماري، إن شعائر وثنية أو مسيحية، تآلفت كلها في إيطاليا المديشية نسبة إلى عائلات مديشي الحاكمة .

ابتسامة الموناليزا الغامضة لدافنشي، سهام كيوبيد الجارحة لرفائيل، مشاهد الطبيعة وأجساد جميلات البندقية العاريات، لوحات مايكل أنجلو أو أشعار أريتينو، كلّها دلائل واضحة على أننا نشاهد ثورة عظيمة على قيم العصور الوسطى الراسخة وأخلاقياتها.

في هولندا ترجم الفنانون والشعراء الواقع إلى لوحات وقصائد، تصوّر الحاضر وتعبّر عن الإنسان، بعيداً عن الكنيسة أو العقيدة. ثم سرت العدوى إلى دول الشمال، وتطوّرت إلى شعور وطني وثورة دينية. تقطع معظم صلاتها بالماضي.

تلك كانت روح النهضة التي كانت سبباً في مولد الطبقة المتوسطة. جاءت لتمجد الفرد ولتعضد الثقة في قوانين الطبيعةـ فبزغ نور العلم واستخدام العقل إيذانا بسقوط دولة المطلق، واعتلاء سلطان فلسفة النسبي.

يمتد عصر النهضة الأوروبية والإصلاح من عام 1350 إلى 1700. خلال تلك الفترة تم التحول من حياة العصور الوسطى إلى الحياة الحديثة، من السلطة الطاغية إلى الحرية. هنا بدأ نبض الإحساس بالإنسان والإصلاح. في عالم العصور الوسطى كانت قيمة الفرد تساوي صفراً، وكانت سلطة الكنيسة الكاثوليكية المطلقة، تمتزج وتعضد النظام الإقطاعي.

تعني الإنسانية التعبير عن الإنسان وعن النفس بالفنون والآداب. رفائيل ومايكل أنجلو ودافنشي خرجوا على التقاليد المرعية الصارمة التي كانت تفرضها الكنيسة، وعبّروا بالفرشاة واللون عن مجتمعهم وأنفسهم كأفراد. إراسموس ورابيلياس وميراندولا وفيسينو كانوا نفوساً حرة، مثل الطيور البرية، لا يحجبها شيء عن التمتع بمباهج الحياة بجميع أطيافها، والتعبير عنها بلا خوف أو وجل.

المنادون بالحرية والإنسانية مذهباً، حاولوا إعادة اكتشاف أسلوب الإغريق في الحياة. هذا يعني إعادة اكتشاف تراث الإغريق الثقافي، فبحثوا عن مؤلفاتهم في الفلسفة والعلوم والآداب، الزاخرة بالعقلانية، التي يفوح منها عبق الحرية الشخصية.

لكن للحرية الشخصية أخطارها بالطبع، مثل الضرر والإضرار والإفراط والفوضى والقسوة، إلخ. لكن لا بد من المحاولة. من حق الإنسان أن يخطئ لكي يتعلم من خطئه. الحرية أفضل من الطاعة العمياء للسلطة. أفضل من تعطيل العقل والعيش في كنف الخرافات والخوف والجهل. أفضل من الأمان تحت مظلة نظام صارم فاسد مستبد.

أتباع الحرية والمذهب الإنساني، درسوا اللغة اليونانية ونقّحوا مخطوطاتها. أنشأوا كذلك نظاماً تعليمياً جديداً، مبنياً على آداب الإغريق والرومان القدماء، كي يدرأوا عن كاهلهم إرث العصور الوسطى الثقيل من التعاليم الجامدة المتخلفة.

كان رابيلياس يقول: «من دون اللغة اليونانية لا يحق لأحد منا الادعاء أنه عالم». لكن محاولة إحياء لغة ميتة، كان عملية منهكة للقوى، تستلزم الاهتمام بالقواعد والأصول والتراكيب. كانوا يعتبرون الآداب والفنون الإيطالية والفرنسية في ذلك الزمن، عبارة عن تعابير بربرية، مقارنة بمثيلتها الإغريقية .

إحياء اللغة اليونانية القديمة هو إحياء للعظام وهي رميم. كانوا يعتقدون أن الآداب والعلوم اليونانية القديمة هي أكثر حياة من ثقافة المجتمع المعاصر المليئة بالخرافات. في نظرهم، بعث أفلاطون أهم من بعث المسيح. كان إراسموس يقول: «أيها القديس سقراط، صلِّ لأجلنا». أسطورة هيلين وحرب طروادة أرقى لديهم من أساطير العهد القديم. كان الرهبان في إيطاليا يعظون في المناسبات الدينية بأشعار هومير. رهبان باريس، ترجموا كتاب «أوفيد» عن فن الحب. أتباع الأفلاطونية الجديدة بقيادة ميراندولا 1462-1494 ، وفيسينو 1433-1499 ، أحيوا أفكار كليمينت وأوريغانوس، الخاصة بمزج المسيحية بالثقافة والفلسفة الإغريقية. كانوا يرددون أن الدين والعلم لا يتعارضان، وأن الدين والفلسفة متكاملان، بمعنى أن كلا منهما يكمل الآخر.

لورينزو ميديشي الذي كان يحتضن هذه الأفكار، اتبع خطى جده، واستبدل أفلاطون بأرسطو. ثم جعل لورينزو ميديشي مدينة فلورنسا بيتا للعلم والأدب والفن. ككاتب وفنان، أحاط نفسه بعباقرة عصره: مايكل أنجلو، غيرلاندايو، بوتشيللي، رابيا، فيروتشيو، بوليزيانو، فيسينو، وبيكو. جميعهم، كانوا يأكلون على مائدته ويسبحون بحمده.

لورينزو ميديشي، أروع وأذكى حاكم مطلق في تاريخ فلورنسا، هو تجسيد حي للنهضة الإيطالية في إطلاقها الطاقات الخلاقة والإبداع. كان مثل عامة الشعب كريماً ذا طبيعة منفتحة يمكن الوصل له والتحدث معه من دون كلفة. كان يستسلم للعقل والحواس، ويحرص على إرسال السفراء لفحص مكتشفات مخطوطات الإغريق الجديدة. يناقش أفكار الفلاسفة الإغريق مع ضيوفه، ويشترك في رحلات صيد مع أصدقائه. بوليزيانو صديق لورينزو المفضل، كان أفضل شعراء عصره وأنجحهم في تقليد القدماء. كان خبيراً أيضاً في اللغات القديمة فنال وظيفة أستاذ اللغات اليونانية واللاتينية في جامعة فلورنسا. من موقعه هذا طوّر التعليم عامة واللغات خاصة.

فيسينو، أحد أصدقاء لورينزو، كرّس جهده في ترجمة محاورات أفلاطون. لحسن الحظ، تمت الترجمة مع اختراع الطباعة. يختلف عن بوليزيانو في أنه أفلاطوني حديث، أي من أتباع مدرسة أفلوطين الصوفية في الإسكندرية. ميراندولا وفيسينو وبوليزيانو كانوا القوة المحركة للأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا.

في فرنسا نجد رابيلياس 1490-1553 . صديق وتلميذ إراسموس. كان تعليمه في البداية دينياً مثل إراسموس، لكنه تحوّل عن الدراسة الدينية إلى دراسة الطب، ثم كرّس وقته لنقد الخطاب الديني في عصره، مثل إراسموس وفولتير في ما بعد. أدخل دراسة التشريح في الجامعة قبل فيساليوس. بعد ذلك، عُيّن مديراً لمستشفى بونت دو رونيه. كان يسمي الثيولوجيا، علم اللاهوت، بـ«نثنجولوجيا»، وتعني حرفياً علم اللاشيء. وكان يصف الطقوس الكنسية بأنها طقوس وثنية.

مع بوديه، رونزارد، وهوتين، في ألمانيا. فالا وأدلوس في إيطاليا. كوليت وتوماس مور في إنكلترا، تكتمل قائمة أعلام عصر النهضة، والمنادين بالحرية الفردية والمذهب الإنساني. جهود هؤلاء في بداية القرن السادس عشر كانت أثمرت. وأنتجت في بداية العصر الحديث. العقل حل مكان الوحي. العلم والمعرفة كانا البديل من الإيمان الأعمى بعالم المعجزات. لكن هذا التبدل من حال إلى حال، من العصور الوسطى إلى النهضة، لم يكن ممكناً من دون الثورة العلمية. لذلك هي جزء لا يتجزأنبي عصر النهضة هو روجر بيكون 1214-1294 . في القرن الثالث عشر، سبق الجميع ورفض الإيمان الموروث الذي لا يخضع للعقل والتحقيق. كتب يقول إن العلوم التجريبية هي الأصح بين كل العلوم لأنها تحقق نتائجها وتصححها بالتجربة. لو رغبنا في معرفة حقيقية علينا بالعلوم التجريبية.

بعد ذلك، جاء كوبرنيك وفرانسس بيكون فيلسوف إنكليزي وعالم رياضي غير روجر بيكون . كوبرنيق 1473-1543 ، لم يكتشف مركزية الشمس عن طريق الملاحظة والاستنتاج، وهذا أمر عجيب، إنما عن طريق جنون أصحاب المذهب الإنساني بعلوم الإغريق والرومان.

كان أفلاطون يقول إن العلوم الرياضية هي سرّ هذا العالم. ربما أخذ الفكرة من فيثاغورث القائل إنّ الأرقام هي أصل كل شيء. سيسرو كان يقول إن الأرض تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة. أرستارخوس، العالم الإسكندري، كان يقول إن الأرض تدور حول الشمس.

ما فعله كوبرنيك، هو الإفادة من علوم الإغريق القديمة وعلماء الإسكندرية، وصحح مفهوم مركزية الأرض الشائع الذي جاء في كتاب المجسطي لبطليموس القلوذي الإسكندري. وجد كوبرنيك، الفلكي البولندي، أن ترتيب الكواكب بما فيها الأرض حول الشمس، يجيب عن أسئلة كثيرة لم يكن من السهل الإجابة عنها قبلاً. من هنا كانت نظرية مركزية الشمس.

تحقيق نظرية مركزية الشمس ودوران الكواكب حولها بما فيها الأرض، جاء عن طريق علماء وفلاسفة تجريبيين: كيبلر، ديكارت، سبينوزا، واسحق نيوتن.

مركزية الأرض ومعها سلطة الكنيسة الطاغية تلقيا ضربة قاضية لم يفيقا منها قطّ. كان تأثير مركزية الشمس في الفكر الديني الثابت عهد ذاك، يماثل تأثير نظرية التطور لدارون بعد ذلك بثلاثة قرون. ثم جاءت هزيمة أخرى على يدي غاليليو 1564-1642 . عام 1590، أنجز تجربة الأجسام الساقطة من برج بيزا المائل. أعلن غاليليو الشاب أنه سوف يلقي جسمين مختلفين في الوزن من أعلى البرج، وتنبأ بوصولهما معاً إلى سطح الأرض. هذا يخالف ما نعرفه سابقاً.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن التجربة أثبتت خطأ ما كنا نعرفه نظرياً من دون تجربة. التجربة يجب أن تأتي أولا، ثم بعدها يأتي الاستنتاج والنتيجة المبنية على المعادلات الرياضية. نتائج أعمال غاليليو كانت هائلة. قوانين حركة الأجسام هي التي تشكل العالم، تتحرك بالنسبة إلى المكان والزمان.

أثبت تايكو براهي وكيبلر، بمعادلاتهما الرياضية وحساباتهم الفلكية، أثبتا صحة نظرية مركزية الشمس بلا شك، واكتشف غاليليو بعدما اخترع التليسكوب أن كوكب المشتري ذو أقمار خاصة به تدور حوله.

إذا كانت الأرض هي مركز الكون، لِمَ لا تدور هذه الأقمار حول الأرض بدلاً من دورانها حول كوكب المشتري؟ ألا يعني ذلك أن مركزية الشمس هي الأصوب؟ التفكير يأتي أولاً. ثم المعادلات الرياضية. بعد ذلك تأتي التجربة.

دعاة الحرية والإنسانية يرون أن خلاص الإنسان في العقلانية والقوانين الطبيعية. الإصلاح الديني ليس له مكان هنا. لأن الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر، ترك الغيبيات كما هي، وحول سلطة البابا إلى سلطة الكتاب المقدس فحسب.

يتبع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى