… و«محرقتنا» يا قداسة البابا؟!
جورج كعدي
أيّاً تكن خلفيّات هذا الدأب الفاتيكانيّ، حَبْراً فآخر، عهداً بابويّاً تلو عهد، على مضاعفة التقارب والاعتراف والدلال والتودّد من قِبل رأس الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم لـ«إسرائيل» وصهاينتها المجرمين، قادة وشعباً «متعسكراً» حتّى النخاع، بلوغاً إلى «المسامحة»! أعن اضطهاد المسيح وصلبه، ثم التنكّر التامّ له ولكنيسته ولاهوته وأتباعه وكلّ ما يمتّ إلى المسيحيّة بصلة؟! ، وتباري أحبار روما في إظهار الودّ لدولة الاحتلال والقتل والمجازر هذه، المدعوّة «إسرائيل»، أو التي يعتبرها جميع أحرار العالم، شعوباً وأوطاناً، دولة مغتصبة محتلّة مستعمرة مستوطنة، سلبت شعباً حيّاً أرضه وحقّه وتاريخه وانتماءه وبيته ورزقه وزرعه وماءه وصخره وهواءه وجذوره الثابتة والمثبتة من مئات بل آلاف السنين، لتقيم على أنقاض ذلك كلّه إثر، التهجير والتدمير والجرف والمصادرة والمجازر، «دولة» مسخاً تزعم «حقّاً تاريخيّاً» مبنيّاً على خرافة توراتيّة لا أساس لها من الصحة أو الإسناد التاريخيّ! وها أكبر مرجع دينيّ للمسيحيةّ الكاثوليكيّة في العالم الكنيستان الأخريان الكبريان، الأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة، ليستا أفضل حالاً يتهافت على «الإسرائيليّ» السفّاح تودّداً وتطبيعاً وقبولاً ومسامحةً… وقد يقدم يوماً على طلب الصفح عن الذنوب الأوروبيّة في حقّه!
أيّ نظريّة أو حكمة في العقيدة، أو في السياسة، أو في الديبلوماسيّة، أو حتّى في المبادئ الإنسانيّة العامّة، تملي على الفاتيكان منذ سنوات طويلة هذه المواقف والزيارات التملّقية لـ«إسرائيل» فيما جرائمها ومجازرها و«محارقها» مستمرّة منذ ولادة المشروع الصهيونيّ في فلسطين برعاية المشؤوم بلفور، القوّاد البريطانيّ المنحرف وعدوّ الحقّ والإنسانيّة، فالتغلغل الأفعوائيّ في أرض فلسطين، فالترهيب والترغيب تحت العناية الاستعماريّة البريطانيّة المجرمة عينها فارتكاب المجازر بلوغاً إلى «الإكزود» الفلسطينيّ أو «الهولوكوست» الصهيونيّ الوحشيّ وإعلان الدولة المسلوبة من شعبها، «إسرائيل»، الدولة الأفظع إجراماً والبلامثيل في العصور البشريّة، قديمها وحديثها. ويأتي الفاتيكان، عقب هذا التاريخ كلّه ليعلن الاعتراف ! والقبول ! والعلاقة الطبيعيّة الكاملة ! والمسامحة ! ، ويتعاقب البابوات الزائرون على وضع القلنسوة اليهودية والوقوف عند حائط المبكى ووضع أكاليل على أضرحة «إسرائيليّة» وزيارة متحف «محرقة» هي نتاج الدعاية الصهيونيّة أكثر منها نتاج الواقع والحقيقة التاريخيّة، ولنعد إلى اليهوديّ فنكلستين وإلى روجيه غارودي في ما يتعلق بحقيقة «المحرقة» المزعومة، المضخّمة الأعداد إلى أضعاف مضاعفة، في أقلّ تقدير، والخافية جوانب أخرى عديدة حول الأدوار المجرمة والمعرقلة والوقحة والمشبوهة لمجموعات يهوديّة في أكثر من دولة أوروبيّة ضد الأنظمة والدول والشعوب والمجتمعات، ما استدعى نوعاً من ردّ الفعل المتوقّع. وليس في هذا الكلام تجنّياً أو تعصّباً أو معاداة للساميّة، كما في الردّ الشعاريّ اليهوديّ الصهيونيّ على كلّ ناطق بالحقّ والحقيقة.
إذا كانت خطيئة «إسرائيل» أصليّة كما في التعبير الدينيّ واللاهوتيّ القديم ، أي خطيئة قيامها على أرض الغير من دون حقّ أساساً، وإذا كان تاريخها منذ ما قبل نشوء «الدولة» حتى الساعة هو تاريخ مجازر جماعيّة من دير ياسين وكفر قاسم… إلى قانا وما بعدها وتهجير جماعيّ وفرديّ وقضم أراضٍ واستيطان وتهويد وقتل يوميّ وقمع وإذلال واعتقال عند الحواجز والمعابر… إذا كانت جرائم «إسرائيل» اليوميّة لا تحصى منذ عقود وتملأ مجلّدات من الوثائق باليوم والساعة وأعداد ضحايا القتل والاعتقالات والمجازر… فأيّ سبب للمسامحة والمغفرة والقبول وإقامة العلاقات العاديّة والطبيعيّة مع «دولة» ساطية مغتصبة مستعمرة مستوطنة ومهوّدة عنوةً وبالقوّة… يجد الفاتيكان العذر والمبرّر الكافيين للاعتراف بـ«إسرائيل» وتطبيع العلاقات معها وزيارتها باستمرار ومنحها «البركة» و«الغفران» المسيحيّين على جرائمها ونشوئها الباطل على أرض فلسطين الكنعانيّة السوريّة!
زار رأس الكنيسة الكاثوليكيّة بالأمس متحف «المحرقة» اليهوديّة المزعومة. عظيم! ممتاز! لكن لِمَ لا يُذكّر البابا «إسرائيل» بمجازرها المستمرّة حتى الساعة في فلسطين ودول الجوار؟! لِمَ لا يذكّر الصهاينة المجرمين الذين صافح أياديهم الملطّخة بدماء شهدائنا، من أمثال بيريس جزّار قانا ونتنياهو هتلر الأزمنة الحديثة، بأنّ عليهم، كي تتعاطف الكنيسة معهم ويحذو العالم حذوها، إيقاف القتل اليوميّ والقمع والاستيطان والاحتلال والتدمير والجرف والسطو على بيوت الفلسطينيين وتهويد القدس والأراضي الفلسطينية، أولاً، ومن ثمّ إرجاع الحقّ لأصحابه ثانياً، وهذا يشمل في أقلّ تقدير القبول بالحلّ الذي قبل به حتى الفلسطينيون أنفسهم به كحدّ أدنى، أي حلّ الدولتين المشؤوم مع القدس الشرقيّة للدولة الفلسطينية. والتلويح على الأقلّ بالعودة عن الاعتراف والتطبيع الفاتيكانيّين إذا لم تقبل «إسرائيل» في فترة زمنيّة محدّدة بهذا الحلّ المجحف إنّما الذي يجمّد الصراع لردح من الزمن قد يقصر أو يطول قبل رؤية «إسرائيل» وقد زالت تماماً عن خريطة الهلال الخصيب السوريّ، وعادت الأرض فلسطينيّة إلى أحضان الأمّة ونجا جسدها من السرطان الصهيونيّ.
لنا أيضاً محرقتنا، بل محارقنا الكثيرة، يا قداسة البابا، ولا يجوز التملّق إلى اليهود الصهاينة على حساب دماء أطفالنا في غزّة والضفّة محمد الدرّة ماثل في ذاكرتنا جرحاً أبديّاً وقانا وكلّ مدينة وقرية في جنوب لبنان. شهداء المحارق الصهيونية في بلادنا هم أرفع شأناً من ضحايا «محرقتهم»، الشمّاعة التي يعلّقون عليها كامل جرائمهم المتوالية، وقد بات العالم كلّه يعلم ألا يعلم الفاتيكان؟! أنّ هذه «الضحيّة» اليهوديّة المزعومة لم تبق «ضحيّة» مذ تحوّلت إلى جلاّد وحشيّ يقتل ويعذّب ويهجّر ويدمّر ويقتل الأطفال بالطائرات والدبّابات وعند معابر القهر وحواجز الذلّ.
أصوات شهدائنا الأطفال ترتفع إليك يا بابا روما وإلى كلّ مسؤول وصاحب منصب أو قرار في هذا العالم سائلةً: عن أيّ «محرقة» يتحدّث مضيفوك الصهاينة ويزوّرونك متحفها للمتاجرة به سياسيّاً وإعلاميّاً ويهوديّاً، في توظيف ديماغوجيّ مكشوف، في حين أنّنا استُشهدنا بالعشرات والمئات والآلاف في محارقهم اليوميّة ولم يقف بابا عند شواهد قبورنا أو في مواقع استشهادنا ليتذكّرنا… وليذكّر قاتلنا اليهوديّ الصهيونيّ بنا! فهل هذه هي العدالة المسيحيّة والرأفة المسيحيّة والإنسانيّة المسيحيّة التي تكرزون بها يا قداسة البابا؟!