الكُتْبيّ الذي أنار العالم وهو «بصير»!
محمد محمد الخطّابي
في الرابع عشر من حزيران الماضي، مرّت الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس، أحد أقطاب الأدب الأميركي اللاتيني الكبار، الذي ولد في 24 آب 1899، والمتوفى عن سنٍ تناهز 87 سنة 1986، أكبر احتفاء نُظّم في إسبانيا لهذا الكاتب الفذّ كان قد أقيم ضمن فعاليات ندوة دولية عُقدت في العاصمة الإسبانية مدريد، في ذكرى رحيله قبل الأخيرة، تحت عنوان «الكتاب مثل الكون»، كانت أرملة الكاتب الراحل ماريا كوداما قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قامت خلاله بتحليل دقيق لعلاقة بورخيس الحميمة بالكتب والمكتبات، نظراً إلى مزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية في بوينس أيريس في مقتبل عمره، كما سلّطت الأضواء على المعايشات التي تسنّى لزوجها من خلالها خلق «عوالم مكتبية» فسيحة خاصة به في عددٍ من أعماله، حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكياً للثقافة المعاصرة. وتطرّقت كوداما التي هى كذلك رئيسة «المؤسسة الدولية خورخي لويس بورخيس» خلال هذه الندوة إلى مذكراتها التي تفصح فيها عن حياتها الخاصة مع بورخيس، وسفرياتها معه، كما تتضمن المذكرات عدداً من الأخبار، والأسرار التي لم يسبق نشرها أو ذيوعها حول بورخيس من قبل.
وتعتب كوداما في كل مناسبة على النقاد الذين تطاولوا أو تهجموا عليها أو على زوجها بعد رحيله. وقالت إن مذكراتها تسلّط الأضواء على كل ما كان مبهماً ومجهولاً في حياة بورخيس، ذلك أن أناساً وكتّاباً ونقّاداً كثيرين نشروا غير قليل من الأكاذيب والمبالغات حوله.
كما أكّدت ماريا كوداما في هذا القبيل كذلك، أن نشر هذه المذكرات جاء نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها، إذ سبّب لها كل ما نشر حول بورخيس حزناً عميقاً، وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الاكتئاب. لا بل أن كل تلك الأكاذيب الملفقة أصابتها بالدهشة، من هؤلاء الذين يطلقون الكلام على عواهنه، حتى لو لم يتعرفوا قط إلى بورخيس، على رغم أن بورخيس لم ينظر قط بعين الازدراء أو الاحتقار أو الاستصغار نحو أي كاتب أو أي عمل أدبي، بل إنه كان يكن الاحترام للجميع، حتى إن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين كان لا يتورّع من انتقاد بعضهم، ذلك أن النقد عنده كان يعني ضرباً من «اللعب» نظراً إلى طبعه المرح الذي يميل إلى السخرية والتسرّي، إذ كان يطبق ذلك حتى على نفسه وأعماله»!
البصير الذي استضاء به قومه
تعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينية، بوينس أيريس، وعلاقته الحميمة مع مكتبته الخاصة، ومع الكتب عموماً. فضلاً عن صلاته وآرائه حول عددٍ من المؤلفين والكتّاب ومنهم: كيبلينغ، وايلد، سيرفانتس، كيبيدو، شكسبير، شوبنهاور، وسواهم من الكتّاب والمبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والإعجاب بهم. وأكدت أرملة بورخيس أن زوجها ظل يقتني الكتب بنوعٍ من الهوس، حتى بعد مرحلة إصابته بالعمى، لا بل أنّه خلّد اسم المكتبة في إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان «مكتبة بابل». وكتب عدداً من النصوص عن الكتب والكتاب والمكتبات طول حياته، وأشاد غير قليل من النقاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرائع الذي بدأ حياته «كتبياً» بسيطاً، وعلى رغم عاهة العمى التي أصابته في شرخ عمره، أمكنه أن ينير عوالم المبصرين، وأن يستضيء القوم به، وبأدبه وإبداعاته الوضّاءة .
وقالت ماريا كوداما: إن بورخيس أشاد في كتابه «المتآمرون» بطيبة الناس، وسجاياهم الفطرية، خصوصاً بعد فترة إقامته في جنيف عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان بورخيس يؤكد أن هذا البلد كان مثالاً فريداً التعايش والتسامح لتعدّد اللغات التي يتحدثها الناس به، وكثرة دياناته، ففي هذا البلد تحترم الفوارق من دون محوها أو العمل على إذابتها. لقد لمس بورخيس بنفسه في هذا البلد كيف يحترم الناس اللاجئين والمغتربين، إذ ترك ذلك فيه أثراً بليغاً.
وكانت أرملة بورخيس ماريا كوداما قد صرحت في السياق نفسه، بأن بورخيس لو كان على قيد الحياة اليوم لحظي بالتقدير نفسه الذي أولاه إياه قرّاؤه والمعجبون به وبأدبه في حياته. فإضافة إلى عبقريته الإبداعية، كان رجلاً وفياً لمبادئه، مخلصاً لأفكاره. وتضيف كوداما: «إن هذا ناتج عن كون الناس يعترفون بجانب الصدق في إبداعاته الأدبية أو بالنسبة إلى مسيرة حياته». فبورخيس تعرّض لهجوم عنيف لمناهضته للبيرونية، وقد حرموه من عمله الوظيفي خلال العهد البيروني، أي خلال حكم خوان دومينغو بيرون 1945 ـ 1955 ، كما أن آراءه في بينوشيه جعلت الأكاديمية السويدية تحرمه كذلك من جائزة «نوبل» في الآداب، وهو الأديب العالمي الذي يحظى باحترام مختلف الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء المعمورة. وتضيف كوداما: «هذه الصراحة التي تميز بها بورخيس حرمته من عدد من الفرص المماثلة».
تعرّفت كوداما على بورخيس في سنّ المراهقة، إذ لم يكن عمرها يتجاوز 13 سنة، ذلك أن أباها وهو كيماويّ ياباني كان صديقاً للكاتب، وعندما ماتت والدة بورخيس حلّت كوداما محلها، إذ تفرّغت إلى تدوين ما يمليه عليها بورخيس من أعمال أدبية، إذ كان قد أصيب بالعمى منذ 1950، وصارت ترافقه في رحلاته وسفرياته وتجواله.
وفي نيسان 1985، تمّ زواج بورخيس بماريا كوداما، وكان عمره 85 سنة، في حين لم يكن عمرها يتجاوز 41 سنة، وفارق السن بينهما أفسح المجال لعدد من التعليقات من كل نوع، ليس فقط من طرف الناس، أو الكتّاب أو النقاد، بل حتى من طرف وسائل الإعلام، إلا أن بورخيس وكوداما كانا يستقبلان هذه التهجمات بنوع من الهدوء واللامبالاة، وقد وقفا بالمرصاد لألسنة السوء التي تحوّلت عند موت الكاتب إلى «كتب ملتهبة» حول العلاقة التي تجمع بينهما، كما كانت هناك خلافات، ونزاعات في شأن إرث بورخيس، إذ ما فتئت الانتقادات اللاذعة والتهجمات الشديدة توجّه إلى ماريا كوداما إلى اليوم، من مختلف الجهات داخل بلدها الأرجنتين وخارجه.
مسالك ومتاهات بورخية
تتميز هذه المرأة التي لا تستقرّ في مكان، والتي لم تفتأ تسافر من بلد إلى آخر بحماسة متّقدة ونشاط متواصل، وهي تلقي المحاضرات من دون انقطاع حول أعمال زوجها الواسعة والغزيرة، بسحر خاص، وجاذبية لا تقاوم. فإضافة إلى نشاطها ككاتبة، قامت بالإشراف التام على بناء حديقة في بوينس أيريس أطلق عليها «متاهات بورخية»، إذ كانت قد تلقت «مؤسسة بورخيس» في شكل هدية تصميماً لهذا المشروع المستوحى من أعمال بورخيس، وهو من وضع راندال كواطي، الذي كان يعمل دبلوماسياً لبريطانيا في بوينس أيريس، كما قامت ماريا كوداما من دون كلل بإجراء اتصالات مع بلدية العاصمة الأرجنتينية في هذا الشأن، وعملت بنشاط منقطع النظير على غرس الأشجار التي أحيطت بـ«منتزه بورخيس»، كما عملت أيضاً على تنظيم ندوات كبيرة متعدّدة لعلماء اللغة الإسبانية سلطت فيها الأضواء على أعمال بورخيس الإبداعية، التي نُظّمت في الأرجنتين وفي بعض بلدان أميركا اللاتينية وأوروبا، كما عملت على إصدار الأعمال الكاملة لبورخيس بعدما أضيفت إليها جميع التعديلات والتنقيحات التي قام بها الكاتب نفسه قبيل رحيله. كما قامت مع عدد من الجهات التي تعنى ببورخيس وبأعماله على إعداد مشاريع وأنشطة أدبية أخرى موازية، كوضع باقات من الورود، والقصائد على واجهات السيارات في مناسبات عيد ميلاد بورخيس الذي يصادف 24 آب من كل عام. وتنظيم ندوات دراسية في تواريخ متفاوتة، وأماكن مختلفة حول بورخيس وأدبه، بمشاركة عدد من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمهتمين ومتتبعي أعمال هذا الكاتب الكبير.
وتقول أرملة صاحب «الألف»: «لقد صنفوا بورخيس كسيّد فيكتوري، يتحدث عن متاهات ونمر ومرايا، إلا أنه كان شخصاً لطيفاً خفيف الروح ومغامراً. كانت أمنيته وحلمه أن يعيش في زورق في مجرى غياب نهر التامسيس، إلا أنه عندما تزوجني جعلته يتخلى عن هذه الفكرة بعدما حدّثته عن المخاطر التي قد تعتريها، كما أنه كان يستقبل عدداً من الكتّاب والنقّاد والطلبة والمعجبين به».
وتشير الناقدة فيكتوريا أسوردوي إلى أن غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس «مؤسسة بورخيس»، الاستمرار في إعلاء الشعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، المتمثل في إخلاصها الدائم لهذا الرجل الذي لا تفتأ تصفه في كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة، إذ عانى بسبب ذلك الكثير، إلا أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية ومن صروف الدهر والحياة.
لم ينفك العالم حتى اليوم يعمل على اكتشاف أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني الذي حُرم نعمة البصر، ولكنه وُهب بالمقابل بصيرة نافذة ثاقبة، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له ببشار والمعري وأبي علي البصير، وطه حسين، ويوسف الدجوى، وإبراهيم الإيباري، ومحمد المعداوي، ومحمد حسنين البولاقي والد أحمد حسنين باشا وسواهم.
تقول كوداما: إن عفة بورخيس واحترامه الآخرين جعلا أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق. إذ جعل من هذه الأعمال بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته. وقد أدخلت هذه الأعمال السرور والفضول والمتعة والتطلّع في قلوب القرّاء وعقولهم في مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم. وما يزال تأثيرها يتعاظم على مرّ السنين، ليس فقط في اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، إنما في مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب وفي مقدّمها اللغة العربية.
كلمات بورخيس الأخيرة
ما هي الكلمات الأخيرة التي أملاها الكاتب خورخي لويس بورخيس قبيل وفاته في جنيف؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال حتى الآن سرّاً محفوظاً من طرف ماريا كوداما. إلا أن مطبوعاً تحت عنوان «تقديم بورخيس الأخير» كان قد صدر في بوينس أيريس، أثار جدالاً حاداً بين قرّاء بورخيس ونقّاده والمعجبين به.
بادرت ماريا كوداما على إثر ذلك إلى توجيه مجموعة من الرسائل إلى مختلف الجرائد والمجلات الأرجنتينية توضح فيها ما يلي: «أريد أن أنبّه القراء إلى مدى الزيف الذي ينطوي عليه هذا العنوان». فبحسب أرملة الكاتب، إنّ التمهيد الأخير الذي كتبه الكاتب، هو المتعلق بالطبعة الفرنسية لأعماله الكاملة ضمن السلسلة «بليار» عن دار النشر الفرنسية المعروفة «غاليمار».
وتؤكّد كوداما أن بورخيس كان قد أملى عليها هذا التقديم، إلا أنه لم يتمكن من إنهائه وإتمامه، وتضيف كوداما: «إن ناشر هذه الأعمال الكاملة وهو الفرنسي جان بيار بيرنيس شرح كيف أن هذا هو بالفعل التقديم الأخير لكتب بورخيس في حياته، والذي ظهر أو أدرج في ما بعد ضمن الأعمال الكاملة إياها. لماذا إذن وكيف ظهر النص الأرجنتيني الذي سبب إثارة هذا النقاش بين النقاد والمثقفين والمعجبين والمتخصصين في بورخيس؟ الواقع أن هذا الكتاب يضم 11 قصة لبورخيس. وفي التقديم المختصر الذي وضعه لهذا الكتاب يشير إلى أن تسعة من الأعمال المدرجة في هذا الكتاب، هي من أجمل منتقيات إنتاجه الأدبي.
ثمّ تشك ماريا كوداما بالتالي في صحة هذا التقديم ومصداقيته، الذي يقول بورخيس فيه: «لقد خامرني الشك ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنما هي خطأ ذو أصل تجاري أو احترافي، فأي رجل له الحق في أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنني أريد أن أتصور أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية، لا حول صدى تلك القصص في الذاكرة».
باحث وناقد مغربي