عرض تاريخيّ للإصلاح الدينيّ… خروجٌ بالعقل من الخرافة والخوف والجهل 2/2

كتب محمد زكريا توفيق: لا يمكن فصل حركة الإصلاح الديني عن روح النهضة لأنها تمثل ثورة على سلطة الكنيسة المطلقة، وثورة على التعصب الأعمى والتجارة بالدين وفساد رجاله ومحاربة الخرافات. كان من روّاد هذا الإصلاح هوس وويكليف. كانا ليبراليين بالنسبة إلى الإصلاح الديني، مثلما كان جون بول بالنسبة الأمور الاقتصادية وغاليليو بالنسبة إلى العلم.

الإصلاح الديني هو مجرد تغيير لأسلوب طلب الخلاص. ميل البروتستانت إلى حق الاختلاف الديني كان الأساس الذي بنيت عليه الديموقراطية. كلّ مسؤول عن نفسه. للاعتقاد بالديموقراطية أخطاره. لكن البديل هو غياب الحرية وعدم قبول الآخر تماماً.

لا يحتاج الإنسان إلى وساطة رجال الدين للوصول إلى الله. الإصلاح الديني، على ما يقول راندال، عبارة عن تبسيط للعقيدة المسيحية، علاقة مباشرة بين العبد والرب، وإسقاط لقداسة كنيسة العصور الوسطى وسلطاتها الطاغية. لكن الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر لم يبدأ من فراغ. إذ سبقته محاولات ومقدمات.

كان فرنسيس الأسيزي أثناء وعظه للناس يبسط الإنجيل، وكان الصوفيون الألمان أمثال إيخاردت 1260-1327 وجون تولير 1300-1361 ، يعضدون تجربة الفرد الروحية لمعرفة الخالق، بعيداً عن الطقوس الكنسية. الخلاص يتطلب شيئاً أكثر من مجرد طقوس وثنية.

بطل الإصلاح الديني قبل مارتن لوثر هو جون ويكليف 1324-1384 ، الأستاذ في جامعة أكسفورد. كان ويكليف معارضاً لسلطة الكنسية المادية وسلوك الرهبان. فسلوك الملك هنري الثامن الخطير، في تحديه سلطة الفاتيكان، كانت له سابقة من 150 سنة، عندما شجع ويكليف الملك إدوارد الثالث على عدم الامتثال لأوامر البابا في روما وتعليماته.

الكنيسة، في رأي ويكليف، يجب أن يكون نشاطها تطوعياً وأن تهتم بالوعظ والإرشاد، لا بالطقوس الوثنية. عبادة العادات القديمة وزيارة الأضرحة والأماكن المقدسة يجب أن تتوقف. وسلطة البابا المطلقة هي مجرد اغتصاب للسلطة في البلاد المختلفة والكهنة ما هم إلاّ سياسيون طامحون. كما أن ويكليف أدان نظام الاعتراف وشراء الغفران بالنقود. الكنيسة كانت تملك نصف عقارات إنكلترا وأراضيها.

الامتثال يكون لتعاليم المسيح لا للبابا. إذا كان لدينا مئة بابا وعدد لا نهائي من الكرادلة، فلا يهمنا ما يقولون إلاّ ما يوافق الإنجيل. ثم قام ويكليف بترجمة الإنجيل العهد الجديد من اللاتينية نسخة فوجات إلى الإنكليزية. هي أول ترجمة للإنجيل تستطيع عامة الناس فهمها.

أصبح الإنجيل المترجم أداة في يد عامة الناس. شجعهم على التمرد ضد الحكومة والكنيسة معاً. كانوا يطالبون بحقوقهم بقيادة بول ووات تيلور. ثم ساروا في ثورة إلى مدينة لندن، وأحرقوا قصر دوق لانكستر. وانضم النبلاء إلى الرهبان في مقاومة الثورة.

بسبب تلك الحوادث، فصل ويكليف من جامعة أكسفورد بسبب آرائه. لكن السبب الحقيقي هو علاقته بثورة الفلاحين. لم يعدم ويكليف، لكن أتباعه تمت تصفيتهم بالطريقة نفسها التي أبيدت بها الجماعة الولدينيسية المسيحية في فرنسا في القرن الثاني عشر، بأسلوب «اقتلوهم جميعا عن بكرة أبيهم فالله يتعرف على عباده الصالحين»، وهي إجابة السفير البابوي لدى سؤاله عن كيفية التفرقة بين المؤمن والزنديق. ثم صدر قانون من البرلمان البريطاني يجرم قراءة ترجمة ويكليف للإنجيل، وأحرقت جميع النسخ التي وجدت في حوزتهم.

الاستعداد للإصلاح الديني والتمرد على سلطة الكنيسة الكاثوليكية كان ناضجاً في بوهيميا، مثلما كانت الحال في إنكلترا. كان ذلك بقيادة جون هاس، أستاذ الفلسفة في جامعة براغ. أفكار هاس كانت منتقاة من كتابات ويكليف. لكن هاس دفع ثمناً غالياً لهذه الأفكار. خطأه الأكبر اعتقاده أن السلطات سوف تحميه وتوفر له محاكمة عادلة. بعد رحلة شاقة استغرقت 18 يوماً، لم يجد نفسه أمام محكمة ومحلفين يستمعون إلى دفاعه عن آرائه، لكنه وجد نفسه في قبو مظلم في أحد الأديرة حيث أمضى هناك أشهر من دون بدون محاكمة. طلبت منه السلطة الرجوع عن غيه ونقض أفكاره، لكنه لا يعرف ما هي تهمته وما هي الأفكار التي تغضب السلطة ويجب أن يرجع عنها. بعد ذلك، اقتيد للمثول أمام الامبراطور والأمراء والكرادلة ورئيس الأساقفة والأساقفة والقساوسة والرهبان. وعندما صدر الحكم عليه بالإعدام، سقط هاس على الأرض باكياً وقائلاً: «يا إلهي، إغفر لأعدائي». بعد ذلك، تم شنقه و»وهبت روحه إلى الشيطان». بينما كان يقف وعنقه مربوطة بسلسلة حديد في عمود المحرقة، أعطي فرصة أخيرة للتراجع عن غيّه. قال: «التراجع عن ماذا؟ قلت كل ما عندي بصدق، ولم أخف شيئا من الحقيقة. اعتقدت أنني أعلم الناس التوبة والغفران وفقاً لتعاليم السيد المسيح…أنا لست خائفاً من الموت».

التمرد ضد سلطة الكنيسة مع تزايد الشعور بالقومية، يجعلان من السهل التنبؤ بالإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر في ما بعد. بعد استشهاد هاس على المشنقة، أسّس الإخوة البوهيميون، كما كانوا يسمون، ديناً جديداً يلتزم بالكتاب المقدس بدلاً من المؤسسة الكنسية. كانوا يرفضون السلطة المطلقة للبابا، وصكوك الغفران وإقامة القداس للأموات، وسائر البدع التي تخالف الإنجيل. استمرت هذه الجماعة الدينية تحت اسم «الكنيسة المورافية». أما الإصلاح الديني الذي أدى إلى شطر الكنيسة إلى كاثوليك وبروتستانت، فتمّ عندما تحققت عوامل أخرى، بينها النمو التجاري وانبعاث القومية الوطنية.

قضى بزوغ عصر الرأسمالية على نظام الإقطاع. الثورة الدينية، كانت أداة الملوك والنبلاء في طلب الاستقلال عن سلطة روما، ومن هنا جاءت العوامل الاقتصادية والقومية. الاقتصاد هو المسؤول الأول والأخير عن الإصلاح الديني.

يعتقد كثر أن الديموقراطية والحرية الفردية كانا نتيجة للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، لكن الجذور الحقيقية للديموقراطية، كما يقول إيرنست سيزرلاند بيتس، نجدها في محاولات العودة للمسيحية الأصولية التي قامت بها الطبقات الفقيرة وأشعلت بسببها ثورة الإصلاح الديني التي انتقلت من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية.

أتت فكرة الحكم الذاتي، إلى أميركا عن طريق المهاجرين. فصل الكنيسة عن الدولة جاء من المعمدانيين، وجاءت حرية الرأي والحرية الفردية عن طريق البروتستانتي روجر ويليامز والكويكر وليام بين، والمساواة في إعلان الاستقلال الأميركي، ومن ممارسة الكويكرز للمساواة.

ويكليف وهاس ولوثر كانوا أساتذة فلسفة. معارضتهم كانت معارضة أيديولوجية، وجودهم كان ضرورياً لنجاح الإصلاح الديني. كما أن الإصلاح الديني كان يعتمد على عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية.

فساد الرهبان والتجارة بالدين هما أيضا آفتا المجتمعات الإسلامية كانتا السبب المباشر في الثورة الدينية. جشع وفساد بعض باباوات عصر النهضة مثل إسكندر السادس ويوليوس الثاني ضخّماً الإحساس بضرورة الإصلاح الديني وتغيير النظام البابوي.

ممارسة بيع المناصب الكنسية وبيع صكوك الغفران وسياسة البابا في فرض إتاوات على البلاد الأوروبية الأخرى بالضرائب الباهظة أو ببيعهم صكوك الغفران، أديا إلى حالة عدم رضا واسعة النطاق استمرت لمدة قرنين في شمال أوروبا، قبل هبوب عاصفة مارتن لوثر الإصلاحية.

ما قام به مارتن لوثر هو الدعوة إلى تحجيم سلطة البابا ورفض الطقوس الكنسية كوسيلة للخلاص. الخلاص بالنسبة للوثر، يأتي عن طريق الإيمان الشخصي والامتثال لما ورد بالكتاب المقدس. فمن وجهة نظر القرن العشرين، النهضة والإصلاح الديني لا يمثلان حركة كاملة، إنما هما عبارة عن مرحلة تحول من حال إلى حال. تأثير البروتستانت في العلوم والفلسفة والتعليم كان واضحاً، رغم إيمان لوثر بالغيبيات وعدم ثقته بالعقل. وفسح الإصلاح الديني وعصر النهضة، الطريق لعصر الأنوار. لوثر وكالفن كانا ضروريين لظهور بيل ولوك. رغم عدم اكتمال عصر النهضة ونعته بالعنف وعدم التسامح، إلاّ أنه كان يمثل ميلاد فكر ديني جديد. أما الحرية والديموقراطية بمفهومهما الحديث، فتركا لحركة الأنوار الفرنسية والإنكليزية. ثم جاء بعد ذلك في القرن التاسع عشر عصر العلوم والنقد بلا خوف لثوابتنا وجميع الأمور المتصلة بحياة الإنسان.

ما أريد قوله في هذا المقال هو أننا نشبه الحالة الأوروبية أيام العصور الوسطى، قبل عصر النهضة والإصلاح الديني. نحتاج إلى ثورة حقيقية وإصلاح جذري في الفكر الديني ينتشلاننا من قاع المستنقع الذي نخوض فيه حتى آذاننا. قد ننتصر أمنيا على قوى الظلام والتطرف، لكن بذور الشر سوف تظل كامنة في قلب المجتمع تتحين الفرصة المناسبة لكي تصحو لتنهش في جسد الدولة من جديد.

هذه المرة، على ما تخبرنا نظرية التطور لدارون، لن نستطيع مقاومتها مهما حاولنا، مثل دودة القطن التي تكتسب مناعة من رش التكسافين، ومثل الباكتيريا التي تتحصن ضد المضادات الحيوية. العلاج يكون بتناول جرعات المضاد الحيوي كاملة غير منقوصة، بالإضافة إلى زيادة مقاومة الجسم الطبيعية. أي يجب عدم التهاون في معالجة هذه البؤر الإجرامية أو التسامح أو التصالح معها في أي حال من الأحوال. أي يجب القضاء عليها بالكامل.

بالإضافة إلى ثورة حقيقية في الفكر الديني إذ يتعارض مع العلم والمنطق والعقل، فنحن نعلم جميعا أن الخطاب الديني لم يعد يواكب العصر، بل هو ملئ بـ»الإسرائيليات» والفكر الساذج المتخلف الكارثي والطقوس الوثنية. الإصلاح الديني ينادينا مثلما كان ينادي مارتن لوثر في عصر النهضة، فهل من مجيب؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى