اليونان تنتفض… ماذا عن لبنان؟

إنعام خرّوبي

كأنّ قدر أثينا أن تبقى منارة أوروبا. فإسهامها في بنيان ووجدان الحضارة الأوروبية واضح للعيان. لقرون مضت، صدّرت عاصمة الإغريق نموذجها السياسي والفكري وعمّمته في كامل أرجاء أوروبا. ومؤخراً، تكشّف وجه آخر في بلد الديمقراطية الأعرق.

بنسبة فاقت الـ 60 في المئة من إجمالي أصوات من شاركوا في الاستفتاء الأخير، قال الشعب اليوناني «لا»، وانتفض في وجه الشروط المجحفة لدائنيه، بعد فشل جولات مفاوضات ماراتونية بين حكومة اليونان و»الترويكا»، ضمّت صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية، في التوصل إلى تسوية في شأن أزمة اقتصادية ومالية تشكل مصدر قلق منذ العام 2011 على استقرار الوضع المالي ليس في أوروبا فقط ولكن في العالم أجمع.

نموذج آخر تصدّره أثينا، وهذه المرة عن رفض النموذج الاقتصادي «المعولم» وسياسات الاستغلال والنهب تحت عناوين «الإصلاحات الهيكلية». قرأنا وسمعنا كثيراً عمّا يسمّى «تقسيم العمل الدولي» وعن «خطوط تماس» معيشية واقتصادية و حضارية بين عالمين: الشمال الغني والجنوب الفقير.

ربما يكون واقع الحال كذلك في أوروبا نفسها، وفي رأي الكثيرين، فإنّ ما يجري في الاتحاد الأوروبي هو تهميش الاقتصاديات الصغيرة التي يقع أغلبها جنوباً، لصالح اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى الواقعة شمال التكتل. قد تكون خطيئة اليونان أنها أخفت ملامح القصور في أحوالها المالية والاقتصادية لسنوات قبل أن تلوح بوادر أزمتها في ربيع العام 2010، إلا أنّ الدواء فاق في حجم أضراره الداء ذاته حين فرض الدائنون شروطاً تقشفية قاسية على حكومات أثينا المتعاقبة، بما تضمّنته من اقتطاعات واسعة في الميزانية وضرائب غير عادلة وإصلاحات هيكلية شبيهة بوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين المسمومة والمسؤولة عن دخول أغلب اقتصاديات بلدان العالم الثالث في دائرة الهلاك المفرغة المتمثلة في حلّ أزمة المديونية بالمزيد منها.

حتى اليوم، قارب مجموع ما قدّمه الدائنون، أو وعدوا بتقديمه، إلى اليونان الـ 240 مليار يورو، قد يكون المبلغ المشار إليه كبيراً، إلا أنّ القليل منه ضُخّ في شرايين الاقتصاد اليوناني، في حين ذهب معظمه إلى المصارف لتسديد قروض اليونان الدولية.

قبل أيام، دعا رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس إلى استفتاء شعبي حول قبول أو رفض شروط الجهات الدائنة لدعم مواقفه التفاوضية، وليس للانسحاب من منطقة اليورو . وهو الذي اعتلى السلطة على وقع وعود بإعادة التفاوض حول الإجراءات التقشفية التي يشترطها الدائنون، لا سيما ألمانيا التي تعدّ أكبرهم، وسط سوء الأوضاع داخل البلد وانفتاح الآفاق خارجها. فحجم المأساة الاجتماعية والاقتصادية في الداخل اليونانية يكاد لا يوصف.

في واقع الأمر، يحمّل الزعيم اليساري تلك الإجراءات المسؤولية عمّا يسمّيه أزمة إنسانية . وتشير الأرقام إلى هبوط حجم الاقتصاد اليوناني بنحو الربع وارتفاع معدلات البطالة إلى ما يفوق نسبة 25 في المئة. حتى الأمس القريب، كان قادة الاتحاد الأوروبي يأملون بـ نعم يونانية يخلص إليها الاستفتاء. وبعد رفض النسبة الأكبر من الشعب اليوناني المطالب الأوروبية، عادت جولات التفاوض لتنعقد من جديد بين وفود وزراء مالية الاتحاد الأوروبي ووفود اليونانيين في ظلّ رفضهم تخفيض النفقات الاجتماعية لبلادهم، لا سيما تلك المتعلقة بمعاشات التقاعد للموظفين، فيما يصرّ دائنو اليونان على ضرورة تبني حكام أثينا إصلاحات موثوقة للتوافق والتوصل إلى اتفاق حول معالجة الأزمة اليونانية. وقد أبرز توالي ردود الفعل الدولية على الأزمة بعداً خفياً حول الصراع الجيوسياسي حول البلد الأوروبي المتوسطي، وخصوصاً من روسيا والصين والولايات المتحدة.

تدور مواقف المسؤولين الأوروبيين المتضاربة حيال السيناريوهات المحتملة للأزمة اليونانية، في جانب منها حول «حرب نفسية» جُرّبت ضدّ اليونانيين في أكثر من مناسبة للتأثير في مواقفهم وردّهم إلى «بيت الطاعة» الأوروبي. يجادل البعض، ومنهم فريق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنّ خروج اليونان لن يلحق أذى كبيراً بتكتل العملة الموحدة، على اعتبار أنّ حجم اقتصاد اليونان أصغر من أن يشكل «تهديداً وجودياً» لـ «اليورو». في رأي هذا الفريق، فإنّ أوروبا سبق لها وأن بادرت إلى وضع إجراءات حمائية من أجل تقليص آثار العدوى المالية وللحيلولة دون تمدّدها من اليونان إلى باقي الدول. إلا أنّ القلق يكمن في ما هو غير متوقع، وما لم يتحسّب له هؤلاء.

يقول رئيس الوزراء الإيطالي السابق رومانو برودي وهو من بين المقتنعين بهذه الرؤية المغلفة بالقلق على مصير «الوحدة الأوروبية»، والذي سبق له أن شغل منصب رئيس المفوضية الأوروبية، «إذا كان الاتحاد الأوروبي غير قادر على حلّ مشكلة صغيرة بحجم اليونان، فما هو الهدف من أوروبا»؟

في المحصِّلة، تقدم اليونان اليوم حالة نموذجية عن «انتفاضة شعب» أنهكته «الشروط التنموية» لـ «عطاءات» المانحين الدوليين، كصندوق النقد والبنك الدوليين من خلال ما يسمّى بـ «سياسات الإصلاح الهيكلي» بتداعياتها الاجتماعية الوخيمة المترافقة مع زيادة أسعار الفائدة على عمليات الاقتراض الدولي.

في بلد مثل لبنان، شكلت الاستدانة فيه نهجاً حكومياً ثابتاً لسنوات، لم يسفر سوى عن تزايد حجم الدين العام بوتيرة دراماتيكية لا يدرك الشعب على الأرجح أدنى فكرة عن أسبابها ونتائجها، ومع دين عام يقترب من عتبة الـ 70 مليار دولار ما عدا السهو والخطأ يمكن القول إنّ «الدرس اليوناني» واجب القراءة لبنانياً وتعميمه على الحكّام قبل الدائنين، والأهمّ تعميمه على المواطنين الذين حان وقت خروجهم من شرنقات الطوائف والمذاهب، ليصدحوا بـ»لا» كبيرة ومدوية في وجه الذين خرّبوا اقتصادهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى