فتى الموساد الخطير عزمي بشارة يشتري المثقفين 3
في هذا العدد يأتي المؤلف على مسار تعارفه مع عزمي بشارة وكيفية اكتشاف طلائع التحوّلات العميقة في تفكيره. تلك التي أثارث قلقاً لديه، ما دفعه إلى طرح أسئلة على نفسه تدور حول منطقية أن يحافظ عزمي بشارة على اعترافه بالكيان الصهيوني وفي الوقت نفسه يصرّ على الادعاء بالانتماء القومي العربي.
وقد أشار المؤلف في هذا الفصل إلى تحليل الأسباب التي دفعت بعزمي بشارة إلى أن يتجه نحو الحركة القومية العربية وليس الحركة الإسلامية مثلاً أو حزب راكاح الشيوعي «الإسرائيلي».
لقد أشار المؤلف في هذا الفصل إلى السر القائم وراء اختيار قطر مركزاً لحركة بشارة، وكذلك دور محطة الجزيرة الفضائية. كل ذلك يأتي من وجهة نظر المؤلف في سياق المهمة التي كلّف بها بشارة الموساد «الإسرائيلي».
حتى اللحظة لا يزال كثيرون يرون في د. عزمي بشارة صاحب وجهة نظر في ما يخص الأزمة / المذبحة ضد سورية، والأمر نفسه تجاه فتاوى الشيخ القرضاوي. ولكن، دعك من القرضاوي، عزمي بشارة حالة مختلفة على الأقل في خطورتها. صحيح أن الأزمة السورية كشفت عزمي بشارة بما لا يدع للشك مجالاً في نظر الوطنيين بتنوعاتهم: قومي، شيوعي، مؤمن الخ. ولكن، من الخطأ والسطحية معالجة موضوع هذا الرجل فقط من خلال البوابة السورية فلا يزال كثيرون في حيرة تجاه هذا الأمر ولا سيما من توقف تفكيرهم عند ما قبل آذار 2011. لم يدركوا أن إشكالات النظام وراءنا، بل بقوا هم وراءها. ومن يتخلَّف وراء اللحظة يفقد الشعور بالزمن وينتهي وراء التاريخ.
مشكلة بشارة ترتد في بداية انكشافها إلى عام 1994 حينما بدأت تظهر في كتاباته وأحاديثه أعراض سرطان الصهينة وتحديداً دخول الكنيست برلمان الدولة اليهودية ، وهو ما التقطته، نظراً لأننا تعارفنا منذ 1987 بعد عودتي من لندن من خلال صديق حمصي الأصل متوف هو الشاعر حنا حوشان. كان عزمي حينها قد ترك الحزب الشيوعي بعد أن أهانه إميل حبيبي بنعته بـ»حمار» على مسمع آخرين.
حين تعارفنا كان عزمي يرطن بالهيجلية كمقدمة كما لاحظت بعدها كي يدخل على المسألة القومية. طبعاً هذا التوجه يبقى «وجهة نظر» هذا مع العلم بأن هيجل، هذا الفيلسوف الكبير، هو من مؤسسي التنظير القومي الشوفيني في ألمانيا، وهو نفسه الذي اسس للمركزانية الأوروبية وحتى مركزانية ضد أمم أوروبية بتنظيراته عن أو ضد من اسماهم، شعوب بلا تاريخ: «مثل أل جال في سكوتلندا، ومؤيدي آلستيوارت ف من 1640-1715، والبريتونز «وهو ما أُعجب به إنجلز متورطاً في الفهم نفسه ومأخوذاً/ محتفلاً بقوة تطور الرأسمالية، وربما أخذ هيجل نفسه هذا عن آدم سميث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر حيث اعتبر استعمار بريطانيا لإيرلندا طبيعياً لأن الشعب الإيرلندي كسول». كيف انتقل بشارة إذن من الشيوعية إلى القومية عبر فيلسوف شوفيني، وليس عبر انبهاره بنظرية علم الجمال لدى هيجل مثلاً، هذا سؤال لم أجد الإجابة عليه. ولكن ما كان واضحاً، أن عزمي بشارة الذي بدا يطرح نفسه قومياً، قد حافظ على الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي يقف على نقيض، بل على أنقاض الشعب الفلسطيني، وهو الوقوف النقيض الذي يستدعي كافة النظريات والمواقف القومية حتى الشوفينية منها.وهذا يطرح السؤال العجيب: مثقف يقبل ويقتنع باستعمار استيطاني اقتلاعي ضد شعبه ووطنه مأخوذ بالتحريفية الشيوعية الستالينية وفي الوقت نفسه يرفع شعار الاعتقاد بالقومية العربية التي يُفترض بما هي قومية وعربية أن تكون نقيضاً، بل النقيض الأول والمباشر لوجود الكيان الصهيوني الإشكنازي.
كانت هذه القضايا هي التي أسست لدي قلقاً في العلاقة مع عزمي بشارة وهي علاقة كنت وضعتها قيد المتابعة والتحليل. ومنها استنتجت أن الرجل يخطط لامتطاء القومية كي يصل إلى ما يريد، وهي أمور لم أكن اعرفها بوضوح حينها. ولكنني تساءلت من جانب آخر: ما الذي سوف يجنيه عزمي بشارة من رفع لواء القومية في مرحلة كانت لا تزال القوى القومية واليسارية في حالة تردي، بينما كانت قوى الدين السياسي تغطي شاشة المرحلة؟ بل حتى قوى منظمة التحرير كانت قد تورطت في الخروج من لبنان وكانت متورطة في قُطرية بدأت بمزايدات عالية أثناء الكفاح المسلح وانتهت إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني مباشرة أو مداورة.
ولعل أسباب بشارة هي التالية. هو لا يستطيع الدخول في أحزاب دينية كالحركة الإسلامية، رغم انحطاط وضع القوى القومية، يمكن أن يجد مساحة بين فلسطينيي 1948 حيث الصراع مع الكيان يستدعي لا شك الانتماء القومي. لذا غادر الحزب الشيوعي لأنه يعلم أن ليس بوسعه الوصول إلى مركز قيادي فيه وأن الجمهور الذي يمكنه استغلاله هو الجمهور القومي وليس جمهور الحزب الشيوعي.
ولعل الأهم، أن عزمي بشارة قد أقام ارتباطاً مبكراً مع سلطة الكيان والتي كانت تهيئه لاختراق الوطن العربي، ومن أجل هذا فالأنسب أن يطرح نفسه قومياً، أي لا شيوعياً ولا إسلامياً.
كما أشرت، فالرجل وقد تربى في أحضان الحزب الشيوعي الإسرائيلي القائمة الشيوعية الجديدة اختصارها بالعبرية راكاح وهو المناخ السياسي الذي يعتبر الكيان الصهيوني الإشكنازي واقع قائم يبدأ النقاش معه وعنه بعد الإقرار بوجود «حقه» على أرض فلسطين. لم أكن أسمع منه ما يخالف هذا. وكان سؤالي: ترى هل خرج من راكاح فقط لأن إميل حبيبي شتمه؟ هل هذا كافٍ للخروج؟ لا سيما أنه يحمل جوهرياً نفس موقف الحزب من الكيان. فالكثير من الحزبيين يدافع عن نفسه داخل الحزب بالكلمات، وإن استعصى الأمر فباللكمات.
تزايدت شكوكي بعدها حينما اندفع في عرض نفسه كقومي عربي وناصري، وعقد تحالفاً مع حركة أبناء البلد في فلسطين 1948 إثر تشكيل حزبه التجمع الوطني الديمقراطي، وخلال هذه العلاقة أقنع أكثرية اللجنة المركزية لهذه الحركة بأن تسمح لعناصرها بالتصويت في الكنيست. ربما لأنه على تماس يومي معهم في المحتل 1948، أو لأن ميل أكثرية اللجنة المركزية هناك بهذا الاتجاه، أو لأن عزمي قد بدأ من رام الله عبر إقامة علاقات مع قوى منظمة التحرير يسارها ويمينها ليعود إلى فلسطينيي 1948 مقبولاً من قوى منظمة التحرير وهذا مدخل لا شك فيه تكتيك مميز، لم يتضح في حينه أنه ليس تكتيك عزمي بل تكتيك الموساد.
دخل عزمي الكنيست وكنت قد واصلت نقده في مجلة كنعان، وتمكن من عرض نفسه في الداخل والخارج بأنه قومي عربي وناصري وعضو كنيست معاً.
ولكنني ما زلت أعتقد أن قبول الكثير من العرب ساسة وأحزاباً ومثقفين لعزمي كعضو كنيست لا يعود إلى قدرة خارقة لديه، بل يعود إلى قابلية داخلية لدى كثيرين من هؤلاء للاعتراف بالكيان. وهي قابلية ترتد إلى مستوى من استدخال الهزيمة أو العجز عن فهم: ما معنى عضوية كنيست وقسم يمين الولاء للدولة اليهودية وهو هكذا حرفياً.
لم يكن النقد وليس اليوم ضده على أرضية شخصه، بل محاولة تبيان ما هي خطورة عضوية الكنيست، بعد أن هاجر عزمي إلى قطر، برز السؤال الآخر: لماذا خرج، ولماذا احتفت به قطاعات من العروبة كبطل إلى درجة عدم الجرأة على تصديق أنه رحل ولم يُنف. وهذا يرتد إلى النفسيات المهزومة التي تبحث عن بطل حتى ولو بطلاً وهمياً. وكان له كل هذا.
لكن هذا لا يحل اللغز: لماذا خرج الرجل وهو في «مجده»؟ كما أن وجود الفضائيات يمكنه نقل كل شخص من أي متر إلى أقصى متر في الكوكب، فلا حاجة ماسة للانتقال الفيزيائي.
كان رأيي، وقد كتبته في كنعان أيضاً، أن الرجل خرج في مهمة تطبيعية بهدف أن يعود بعدها وقد ساهم في تطبيع العرب جميعاً، لا سيما أن معظم الأنظمة العربية جاهزة لذلك. ولكن عزمي وقيادة الكيان، وأعتقد مخابراته تحديداً، قد استفادوا من تجربة كوهين كمال سليم ثابت بمعنى أن عميلاً بهذا الحجم يجب أن يُحمى حينما يُكتشف أمره أو حينما يصبح لا بد من أن يُكشف لا سيما وأنه ينغرس في كل الوطن العربي وليس في سورية وحسب.
لذا، تم اختيار بلد مأمون المناخ الأمني والسياسي والثقافي والعسكري وهو قطر. فهي بعيدة عن مرمى القومية العربية وهي محمية أميركية ربما عدد الجنود الأميركيين فيها أكثر من العرب الذين هم 12 في المئة من سكان قطر. هناك، لن يطول الرجل أحد مهما فعل. وهناك المكان الطبيعي ليواصل دوره في تخريب الوعي السياسي للشارع العربي باسم القومية وعبر فضائية الجزيرة. بعبارة أخرى، صار مطلوباً من الرجل، أن يذهب إلى الميدان وصار من حقه على حماية ممكنة. هذا ما يفسر لماذا لم يستقر في الأردن لو كان منفياً وليعمل في إحدى الجامعات. ولماذا لم يذهب إلى ألمانيا حيث تعلم هناك ومن هناك يمول مؤسسة كبرى وثرية هي مؤسسة مواطن في رام الله حتى الآن! طبعاً من المحال أن يذهب إلى سورية أو لبنان، لأن انكشاف أمره يكرر «مأساة» كوهين، مع أنهما هما الهدف الأساس أي المقاومة والممانعة، أما إيران فدولة غير عربية وفيها خبرة وحذر شديدين من كل ما يأتي من الأرض المحتلة.
تخدم تحليلنا هذا علاقة قطر بالكيان الصهيوني وبالولايات المتحدة وبالإخوان المسلمين، هذا الثلاثي الذي يشكل العمود الفقري للثورة المضادة في الوطن العربي ضد القومية العربية ولتصفية القضية الفلسطينية. وبالطبع، كانت قطر موقع انطلاقاته إلى القطريات العربية وعودته للاستراحة هناك. وخلال تلك الانطلاقات، وزع ذات مرة بياناً سرياً من حوالى ثلاثين صفحة وصلني من صديق كما وصلني ما هو ملحق أدناه على عدد محدود من المثقفين العرب لتشكيل تيار عربي، كان واضحاً منه أن لا مشكلة في محتواه مع الكيان الصهيوني وكان جوهره كذلك لبرالياً، لا يمت إلى المسألة القومية بصلة. ولاحقاً، شكل محاولة بديل لمنظمة التحرير مع منير شفيق وبلال الحسن انتهى إلى لا شيء.
وأذكر أنني كتبت ضد ذلك ونصحت أصدقاء حينها بأن هذا الرجل خطير، وبأنكم تتحدثون عن حركة وطنية أو تيار يقوم على نقد منظمة الحرير الفلسطينية، بينما يقودكم رجل هو عضو كنيست ولم ينقد نفسه على تلك العضوية، لم يعتذر حتى نقول تغير الرجل. ولكن هؤلاء كانوا مأخوذين بفتى الموساد. حيث كان يجب كشف بشارة من دوره الأخطر وهو عضوية الكنيست بما هي تكريس بقسم اليمين للكيان الصهيوني كان على الوعي المتخلف الانتظار حتى عام 2011 حين بدأت صورة الرجل تتشقق إثر عدوان الناتو على ليبيا واحتلال السعودية للبحرين. وبالطبع أتت الأزمة السورية لتكشف عن رجل لا يقل خطورة عن كوهين. أما وقد انكشف كل شيء فلم يكن أمامه سوى المكابرة والاستمرار في موقفه المضاد لسورية وليتضح أنه كان يدعو الكثيرين من «المعارضة» السورية النظيفة وذات المستوى الفكري والتاريخ السياسي إلى الدوحة للتآمر معهم على سورية! وكانوا يذهبون صاغرين.
صحيح أن الأزمة السورية هي التي فضحت المستور. ولكن مع ذلك، علينا أن لا نرى حقيقة الرجل من خلال سورية أولاً بل من خلال الكنيست ومن ثم من خلال مذبحتي ليبيا وسورية. وهنا أؤكد أن من لا يرتكز موقفه من هذا على أرضية رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني وعضوية الكنيست، فهو إما مع الاعتراف بالكيان، أي صهيوني عربي، أو عاجز عن فهم خطورة الاعتراف بالكيان.